حوار مع الدكتـور سـعـد كـمـونـي حول مجمل أعماله الفكرية

حوار مع الدكتـور سـعـد كـمـونـي حول مجمل أعماله الفكرية

أنا لا أتحدث عن “القومية”، ولا عن مشروع سياسي، بل عن مشروع إنساني، مشروع نهضوي للإنسان العربي”

د. حسام الدين درويش:

نرحّب بكم في ندوة جديدة من سلسلة ندوات “مؤمنون بلا حدود”، من مقر المؤسسة في بيروت. ونستضيف، اليوم، الدكتور سعد كمّوني، في ندوة حول مجمل أعماله وفكره، وسنركّز على أربعة كتب، مع إشارت إلى كتبِ أخرى، ومنها كتبٌ قيد التأليف أو النشر. أهلاً وسهلاً بك، دكتور سعد، وشكرًا جزيلًا على حضورك.

دعوني أقدّمه سريعًا، ولو ببضع كلماتٍ او أسطرٍ؛ لأن تقديمه يطول، لكن الأهم أن نقدّمه من خلال فكره. الدكتور سعد كمّوني أستاذ متفرّغ حاليًّا للبحث العلمي في جامعة الجنان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية في لبنان. وكان سابقًا أستاذًا في الجامعة اللبنانية، ومسؤولًا ثقافيّا في نشرة جماهير لبنان، ومدير تحرير مجلة المنابر. كما عمل في مجال التدريس، وإعطاء المحاضرات، وفي الجامعة اللبنانية، والمعهد الجامعي الأمريكي، وله مشاركات عديدة في ندوات ومؤتمرات. من أبرز أعماله، إلى الآن، اثنا عشر كتابًا منشورًا، وهناك كتب قيد الطبع، كما سنرى. وكتاباته وكتبه متنوعة: منها الفكرية، ومنها الأدبية، ومنها ما يندرج في إطار الشعر. نرحب بك، وشكرًا جزيلًا على حضورك.

د. سعد كمّوني:

شكرًا لهذا الترحيب اللطيف. وجميل جدًّا أن أطلّ على جمهور “مؤمنون بلا حدود، لأتحدّث عن مجمل أعمالي المتواضعة، ولا أدّعي أنها خارقة، بل هي مجرّد مساهمة أو محاولة ضمن مجموعة من المحاولات التي يقوم بها المفكرون والمثقفون العرب، خصوصًا من خلال منصّة “مؤمنون بلا حدود“.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا لك، دعنا نبدأ مباشرة بالعمل الأساسي، أو حجر الأساس، وهو “العقل العربي في القرآن”، فهذا العمل هو في الأصل أطروحة الدكتوراه. فما الأفكار الأساسية التي أردت التعبير عنها من خلاله؟

د. سعد كمّوني:

هو امتداد لأفكارٍ، طبعًا، كل الكتب جاءت ردًّا على فشلٍ ما. فشل في الرهانات الفكرية، في الرهانات الثقافية؛ الفشل الأكبر والأسمى كان في الرهان على الثقافة العربية، وخصوصًا الثقافة القومية التي كانت سائدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والمآل الذي آلت إليه. وبدأت المسألة انطلاقًا من تساؤل، أو من رؤية قد تكون مفيدة، وقد لا تكون، لكنها كانت منطلقي الأساسي. فعندما يفشل النضال العربي في بناء مجتمع الكفاية والعدل، وفي شقّ الطريق الواضح نحو نهوض يمكّن الإنسان العربي من الإسهام في بناء الحضارة الإنسانية من موقع الاقتدار، عندها سيلتفت الإنسان العربي، أو على الأقل أنا التفتُّ، للبحث عن المأزق: أين يكمن هذا المأزق؟ هل هو في اختياراتنا؟ فمثلًا، كنّا نسعى إلى بناء مجتمع عربي اشتراكي ديمقراطي موحّد، فهل كان هذا خيارًا خاطئًا؟ لماذا فشلنا؟ هنا بدأتُ عملية استعراض ذهني داخلي، وبدأت أبحث عن مشكلة “الأمة العربية الواحدة” هل هي مشكلة تاريخية؟ هل هي موجودة في التاريخ فعلًا؟ هل من حقّنا أن نحلم ببعثها؟ هل النضال في سبيلها مشروع؟ وهل التضحيات التي بُذلت على هذا الطريق، هي فقط من أجل فلسطين للتحرر، ولتحقيق الوحدة العربية، ولأي مشروع نهضوي، فهو لا يريد دماء بهذا الحجم. إذًا، لماذا فشلنا؟ السؤال هنا، بالتوازي مع هذا الهمّ: لماذا نجح محمد؟ وما الذي فعله أتباع محمد، أو الصحابة، ولم يفعله الذين سبقونا في السعي لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الديمقراطي الموحّد؟

هنا بدأتُ أتوجّه نحو القراءة بهدف اكتشاف: كيف يعمل العقل العربي؟ وكيف يُعاين الذهن العربي الأشياء ويتعامل معها؟ فبدأتُ الحديث، قبل “العقل العربي في القرآن”، عن “الطلل في النص العربي“، بوصفه موقفًا. واعتبرت أن الظاهرة الطللية ليست مجرّد مطلع غزلي زاوله كلّ الشعراء الجاهليين، بل اكتشفتُ قبل البحث في العقل العربي في القرآن”، أن الإنسان العربي هو إنسان طللي، وأن النصوص العربية، بما فيها القرآن الكريم، هي نصوص طللية.

د. حسام الدين درويش:

إنسان طللي، يعني يقف على الأطلال، على المكان؟

د. سعد كمّوني:

نعم، على المكان المتهدّم. ولكن، هل هذا الوقوف هو رضا عن الانهدام؟ أم إنّه نشدان لبناءٍ لا يتهدّم؟ وهذا هو الفرق، وأين تكون المسألة متعثّرة. وما استحضار المرأة، والماء، والأشجار في هذه السياقات، إلا استحضار للحياة في مواجهة الموت، واستحضار للأحلام في مواجهة اليأس والإحباط، اللذين كانا يحيطان به، وكانا يُعبَّر عنهما بفشل في اللقاء مع المحبوبة، أو الفشل في الوصول إلى نقطة ما، أو توصيفٍ لحالنا في هذه الحياة: الإنسان مع الإنسان، الإنسان مع المكان، والإنسان مع الزمان. وأكثر ما يُؤلم، مثلًا، قولهم: “كلانا بها ذئب يُحدّث نفسه بصاحبه”. مع هذه الأمور، بدأت الرؤية العربية، هل كان الإنسان العربي يرى الأشياء كما هي؟ أم كما تبدو له؟ وكيف تبدو له؟ لقد تمظهرت هذه الرؤية في النص “الجاهلي” بين مزدوجين، أو ما قبل القرآن، ثم تمظهرت في القرآن الكريم. وأكثر ما عبّر عنها كان في سورةالحاقة”؛ إذ ذُكر انهدام قوم عاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم؛ أي ذكر الانهدامات الحضارية المتلاحقة، ومن ثمّ الرسالة المحمدية، بوصفها انطلاقة تتجاوز أسباب الانهدام.

د. حسام الدين درويش:

دعني أقول إن العنوان بدا إشكاليًّا مبدئيًّا. فالقرآن يُفترض أنه رسالة سماوية، أو رسالة إلهية إلى جميع البشر، وهو رسالة منقولة، وبالتالي تدخل في ثنائية “العقل والنقل“. وهنا، النقل يمثل القرآن، وستكون لك الفرصة لتشرح ذلك. من جانب آخر، إذا استثنينا مسألة اللغة العربية، فالقرآن ليس “عربيًّا” بالمعنى الثقافي؛ أي ليس نتاجًا لثقافة عربية، بل هو – بحسب المنظور الإيماني – كلام أو نتاجٌ إلهي، وهنا تبرز إشكالية في الحديث عن “العقل” من ناحية، وعن “عربيّته” من ناحية أخرى، في القرآن؟ كيف يمكن توضيح هذه المسألة؟

د. سعد كمّوني:

جيّد، هذا سؤال استفزازي. أنت تقول إن القرآن ليس عربيًّا، لولا اللغة! وماذا يبقى من دون اللغة؟ وأي شيء غير اللغة. اللغة، كما يقول الفلاسفة الوجوديون، وخصوصًا هايدغر، هي وطن الإنسان. والنبيّ العربي الكريم، كان يقول – إذا صحت الروايات -: “ليس العربي بأب منكم أو أم، إنما العربي من تكلّم العربية”. فالكلام العربي، هو مظهر صوتي عميق يتجلى فيه وبه الإنسان العربيّ، وهو نتاج تلك العلاقات الموغلة القدم بين العربي ومحيطاته الطبيعية الوعرة والشحيحة وغير ذلك، وحتى نقبض على هذا المعنى فلننطلق من مقولة سقراط الشهيرة: “تكلم يا ولدي حتى أراك”، والمقصود بذلك أن “الرؤية” هي “الحضور اليقيني” الكلام هو المرآة الحقيقية التي تعكس روحك ومواقفك بإزاء المكان والزمان والإنسان، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بثنائية العقل والنقل، لنفترض أن هذه اللغة هي لغة الله، وهذه الأفكار هي أفكار الله، وأن القرآن هو “تأليف” الله، لكنّه بلا شك كتاب تفاعلي أو نتاج تفاعل منجّم على مدى عقدين ونيّف من الزمان العربي، يتعامل مع واقع متحرّك، يُحارِب مفاسد عربية، ويعزّز مكارم أخلاق عربية، ويرسم طريقًا في الصحراء العربية، بحثًا عن ماء، عن حياة – وليس عن أيّ حياة. ويقدّم حججه – أي هذا القرآن – للوصول إلى الجنة أو المصير الذي ينتظر الإنسان، من خلال الثنائيات الضدية التي يعيشها الإنسان العربي ويعرفها.

نأخذ على سبيل المثال: “إنما مثل الحياة الدنيا”، “كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض”. المهم إنما مثلُ، لماذا استخدم “إنما”، وليس “ما…. إلا”؟، لكن “إنما” أبلغ؛ لأنها تُستخدم عندما يكون المخاطب على علمٍ بما يُخاطَب به. إنما مثل الحياة الدنيا”، الحياة الدنيا التي يعيشها العرب، وكان لهم موقف منها في عقلهم، فقالوا: إن هي إلا حياتُنا الدنيا نموت ونحيا وما يُهلكنا إلا الدهر. جاء القرآن ليقول لهم: هناك ما بعد هذا الدهر. ولا تغتروا، فأنتم مطالبون بأن تبنوا، أن تُعمِّروا هذه الأرض، أن تؤسِّسوا لبنيان حضاريّ، بل أن تعرفوا أكثر عن هذه الحياة الدنيا، كيف سيرورتها، وكيف صيرورتها. هذا “المَثل” هو مشهد مرئيّ، ولذلك قال: “إنما مثل الحياة الدنيا، ولم يقل: “إنما الحياة الدنيا”؛ لأنه أراد تقديم مشهد. وهذا المشهد من أين أصل إليه؟ أصل إليه من خلال مشهد مألوف؛ لأن عقد المشابهة يكون بين طرفين؛ لتأكيد صفةٍ في الطرف الأول هي في الطرف الثاني آكد وأشهر، وهو الطبيعة أو ظواهر الطبيعة التي يعرفها هذا العربي، ولا يعرفها الأوروبي الذي يعرف شيئا آخر عن الطبيعة، ولا يعرفها ربما الصيني ولا الهندي. وهذا الأمر مهمٌّ جدًّا؛ لأنه قال: “كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض”؛ فاختلط يفيد التنوّع.

هذا المشهد الذي أراد القرآن الإلهي أن يستعمله العرب، تنتهي الآية بـ: “لقوم يتفكرون …”، والتفكر نوع من إعمال الذهن في ما هو خارج الذهن. أرجو أن أكون قد وضّحت المسألة.

د. حسام الدين درويش:

نعم، هذا سيفتح بابًا لتوسيع السؤال واستئنافه، دعني أقول إن المسألة الآن هي العقل واللغة، أو الفكر واللغة. هنا يبدو معقولًا الحديث عن عقل عربي، انطلاقًا من اللغة العربية. فإذا كان القرآن لغة عربية، فذلك يعني عقلًا عربيًّا. لكن كما تعلم، دعني أُؤسّس لسؤالي الاستفزازي بشيء من التراث: نعرف جميعًا المناظرة بين السيرافي ومتى بن يونس، حيث كان النقاش حول ما إذا كانت اللغة العربية – ممثلة في نحوها – تختلف أو تتمايز عن منطق اليونانيين، الذي هو أداة العقل عندهم. ووفقًا للسيرافي، المنطق اليوناني هو نحوهم، والنحو العربي هو منطقنا. من هنا، يمكن القول إن للغة العربية منطقها، وبالتالي عقلها الخاص. لكن، في المقابل، يصبح من الصعب الحديث عن “العقل” بمفهومه الكوني؛ أي العقل بوصفه “أعدل الأشياء قسمةً بين الناس جميعًا”، بحيث يشملني ويشمل الغربي والمسيحي واليهودي والملحد … إلخ. فإلى أي مدى يمكن القول إن العقل، الذي تتحدث عنه هنا، هو مفهوم كوني؟ أم هل هو عقل عربي، يرتبط بهذه اللغة، وفقًا لمنطقها أو نحوها؟

د. سعد كمّوني:

نعم، عندما اخترتُ هذا العنوان لعملي، كنت أفكر في: كيف يعمل الذهن العربي في مواجهة الأشياء؟ كيف يتعامل مع التحديات؟ ولهذا، لم أُعرّف “العقل” تعريفًا فلسفيًّا، ولم أرجع إلى تعريفات الفلاسفة، بل رجعتُ إلى “العقل” في اللغة، إلى معاجم اللغة، وإلى استخدام العرب لمفردات العقل، سواء وجدانيًّا أو في رسائلهم، فالعقل هو الإجراء الذهني الذي يُحكِم الأشياء: مثلًا، “عقل الصحراء” هو من عرفها، قطعها من أولها إلى آخرها، فأصبح عارفًا بها، يعقلها؛ أي يُدركها. والعقل هو الحصن، هو الحماية. لذلك، يُقال: “معقل الجبال”، “معاقل المحاربين”، إلخ. فالعقل الذي قصدته هو هذا الإجراء الذهني الذي يُحيط بالأشياء ويضبطها ويربطها. ومن هنا جاء “عقال البعير”؛ أي الرباط.

وأعتقد أن العقل – في اللغات الأوروبية – ليس له جذر يدل على “الربط” أو “الضبط”، بل له دلالة أخرى.

د. حسام الدين درويش:

على الرغم من أنني لستُ مولعًا كثيرًا بالتحليل اللغوي للمفاهيم، أرى ضرورة التمييز بين التحليل اللغوي والتحليل المفاهيمي. فالمفهوم يختلف عن المفردة. المفردة لها محدودية في الاستخدام. والعقل الذي نتحدث عنه هنا مفهوم كوني، يُفترض أنه يُطابق الـ raison؛ أي العقل الذي تتحدث عنه اللغات الأخرى. ولو لم يكن هناك مفهوم مشترك، أو معنى مشترك، فما معنى الحديث عن هذه الكلمة أو تلك؟

وفي إطار هذا التمييز، وفي إطار التحليل اللغوي، يقال – مثلًا – إن مفهوم “العقل” أو “الدولة”، على سبيل المثال، يشير في بعض الثقافات إلى التغير أو التبدل عبر مراحل، بينما يُراد به في لغات أخرى الثبات والاستقرار. العقل أيضا في اللغات الأخرى كالفرنسية والإنجليزية، يرمز إلى “السببية”، وليس إلى “الربط” أو “عقل البعير“. أما في الثقافة العربية، فالعقل يُفهم على أنه للجم، أو للحدّ من الشطط. ومن هنا، فإن التحليل اللغوي للكلمة العربية يجعل العقل العربي عقلًا مقيّدًا أو محدودًا أو مَلجومًا، بعيدًا عن البحث، والانفتاح، والتحرّر، والتغيّر. لهذا السبب، كما تعلم، يثير مفهوم “العقل العربي” تساؤلًا: إلى أيّ حد يمكن أن يكون “العقل” عربيًّا أو غير عربي؟ وبأيّ معنى؟ فهذه النقطة بالنسبة لي مثيرة للاهتمام، لا سيما أن “العقل العربي” المذكور هو عقل “اللغة الإلهية”، وليس البشرية. فهو عقل اللغة التي أُرسلت من الإله، وليس عقل الإنسان الذي يتلقى النص. والمقصود هنا ليس عقل المتلقي، وإنما عقل المُرسِل، وهو الله؟

د. سعد كمّوني:

أنا لا أقول بإكراهات المرسَل إليه للمرسِل، المرسل يرسل رسالة إلى المتلقين، لكن ما الضرورة التي أملت على المرسل أن يرسل هذه الرسالة؟ أليس واقع المتلقين المتردي؟ وهذه الرسالة، أليس من المفترض أن تكون مفهومة؟ هذا بيانٌ للناس، فإذن يجب أن تكون مبينة عند هؤلاء المتلقين. فاللغة التي خاطب الله بها هؤلاء الناس، أو من خلالهم إلى العالمين. هذه اللغة أفلا تحمل مسوغاتها من واقعهم؟ من التحديات التي كانت تواجههم؟ لماذا أنتجوا هذه اللغة؟ كيف أنتجوا هذه اللغة؟

د. حسام الدين درويش:

بلغة يفهمونها.

د. سعد كمّوني:

نعم، أضف إلى ذلك أيضًا، إن هذه اللغة التي خوطب بها هؤلاء، هي لغة تراكمت فيها لغات وثقافات وحضارات، من خلال التعاقب، والتثاقف، وبالأخص أن الإنسان العربي كان في حالتيْ ترحال وحلّ دائمين، بحثًا عن الماء، ودونه “خرط القتاد”، كما يُقال، وكذلك فراق الأحبة، الطموحات، الأحلام… كل ذلك موجود في هذه اللغة، ويسكنها هذا الإنسان العربي. والله استخدم هذه اللغة.

فأن تقول: هذا كلام إلهي – عندما يحدثني الله عن الجنة، والنار، والماورائيات- فأنا لن أتدخل في الفهم؛ لأن تلك من المتشابهات. أما عندما يحدثني عن أمور الدنيا، فالمسألة تعنيني، ويجب أن أفهمها، وأن لا أفسرها بالخرافات، أو أن أُرجع أسرارها البلاغية إلى القدرة الإلهية. ليس هذا هو مضمون الرسالة. المهم أن “العقل العربي في القرآن” كان محاولة مني للتعرّف على الإجراءات الذهنية التي كان يقوم بها الإنسان العربي في مواجهة هذه التحديات، وما الذي ظهر منها في القرآن.

بكلام توضيحي، ولله المثل الأعلى: أنت أستاذ، حين تدخل قاعة المحاضرات، لديك في ذهنك علم كثير. ما الذي تريد أن توصله للطلاب؟ هل توصل كل علمك؟ الذي يقتضيه وجودهم في هذه القاعة، هو الذي يحدّد ما الذي ينبغي أن يصل إلى الآخرين. هذا المتلقي مسكون بتحديات يومية، وربما بشطط يومي، وأراد القرآن أن يوجّهه، وهذا هو “العقل”، هذا هو “الضبط” الذي أعنيه. سيظهر المتلقي من خلال تحليلي للنص. فمثلاً، قبل قليل، كنا نقول: لماذا قال: “إنما”؟ ولم يقل: “ما… إلا”؟ “ما …. إلا” تُستخدم في اللغة العربية عند هؤلاء العرب بمنطق لغتهم، عندما يكون المتلقي في موضع إنكار أو شك، فنقول: “ما زيدٌ إلا كذا”؛ لأنه ينكر هذا. لكن “إنما” في “إنما زيدٌ كذا”؛ تعني أنك تعرفه. هذا هو المقصود بالإجراء العربي، الإجراء الذهني الذي سأعثر عليه في القرآن.

د. حسام الدين درويش:

حسنًا، دعني أضع هذه الرؤية ضمن رؤية أوسع، وهي رؤيتك إلى “الوجود، حيث هناك ترابط وثيق، وعلاقة جدلية إيجابية، بين “العروبة” و”الإسلام“. وهذه أطروحة لك، لطالما أثرتها. فهل يمكن وضع هذا ضمن تلك؛ أي ضمن رؤية أوسع؟ فما الترابط الوثيق أو العلاقة الجدلية الإيجابية أو “الجدل الإيجابي” بين العروبة والإسلام؟ وهل يمكن القول إن هذا الترابط الوثيق قد حصل في لحظة تاريخية؟ وأن العرب لم ينهض لهم شأن إلا مع الإسلام؟ ومن ثم، هل من الضروري أن يستمر هذا الارتباط؟ ماذا عن غير العرب في الإسلام؟ وماذا عن غير المسلمين في العروبة؟

د. سعد كمّوني:

أقول، وأنا مسؤول عن كلامي: الإسلام نتاج للعروبة. هذا كلام خطير! وسأوضح ما أقصد: هل هذا يعني نفي ألوهية الإسلام؟ نفي ألوهية النص القرآني؟ كلا. كنا نتحدث قبل قليل عن المعنيين بالرسالة، ومن خلال استقامتهم، ومن خلال الصراط المستقيم الذي يسيرون فيه، يكونون “للبشرية جمعاء”. هل جرت الأمور هكذا؟ بالطبع لا. التغيير لا يحدث هكذا بقرار، بل هو مسؤولية الإنسان العربي، أن ينجز مهامّه، أن يحقّق قدراته التي تمكنه من التوجه إلى البشرية. هذه كانت “قدوة”، ولكن هذه هي المبادئ: “هذا صراطي مستقيم فاتبعوه”، وقد جاءت هذه الآية بعد ذكر المحرمات. ماهي أبرز هذه المحرمات؟ هي المحرّمات المشتركة بين جميع الأمم، جميع البشر؛ مثلًا، ألا يتزوّج أمه، أو أخته، أو ابنته؛ فكل الأمم هكذا، والتأكيد عليها هو تأكيد على إنسانية الإنسان. وهذه ميزة عروبية/عربية؛ فعندما أقول: “بين العروبة والإسلام”، فأنا لا أتحدث عن “القومية”، ولا عن مشروع سياسي، بل عن مشروع إنساني، مشروع نهضوي للإنسان العربي، يمكنه من الانسجام مع الجهود الإنسانية من أجل تقدّم الإنسان، ومن أجل حياة حضارية أكثر أهمية.العروبة، بما هي عليه من وعي حضاري، هذا الوعي الحضاري اعتمل بالتثاقف، بالنضج، الذي بلغته – مثلًا – مع “دار الندوة”، ومع النص القرآني.

لقد ذكرتني بقول لجُرجي زيدان، قال: الذي يقرأ الشعر الجاهلي، يكون كمن تعرّف على باقة من الزهور أُلقيت من وراء سور. فنحن، من تنوع الأزهار، نُدرك أن ما وراء السور “حدائق غنّاء”، لم تصلنا منها إلا هذه الطاقة من الزهور. فأنا أقول: إن القرآن، بهذا المستوى النصي الراقي، لا يمكن أن يكون قد نزّل على “جهَلة”، أو على “أمّيين” بالمعنى الشائع؛ أي أغبياء. هذا المستوى الراقي من البلاغة، ومن التوصيف، والتشبيه، والوعود، وتحميل المسؤولية؛ كلها تدل على أن وراء هذا السور كانت هناك “حدائق غنّاء”. فمن يقرأ مثلاً في مشاريع الظاهرة الطللية، كما تحدثنا سابقًا، يرى أنها موقف ضدّ الانهدام. الشعر، هذا -الشنفرى، على سبيل المثال – قال: أقيموا بني أمي صدور مطيّكم فإنّي إلى قوم سواكم لأميَل. وإذ يُحدّد صفات القوم الذين يميل إليهم، تعرف أنه يميل إلى “مجتمعٍ عادلٍ”. هذا التطلع إلى العدالة موجود عند امرئ القيس، وعند طرفة، وعند عنترة. عنترة، الذي يحضرنا الآن، مثلًا، تقول: إن الثقافة تعيد صياغة الإنسان، فعندما تجد هذه القيم لدى عنترة، أنا لا أطالب باستعادتها أو الالتزام بها، ولكن عندما تجد أن تأشيرة الدخول إلى القبيلة، يطلب من القبيلة أن تعترف به، لا أن يُدير ظهره لها، كما فعل الشنفرى أو طرفة بن العبد. كان يريد من قبيلته أن تعترف به، يريد من شدّاد أن يعترف بعنترة، فماذا الذي قام به؟ مجّد ثقافة القبيلة، مجّد قيمهم، وأخلاقهم، وقدراتهم، والتزم بها؛ فأبرَز نفسه بطلًا، يستحق الجنسية. إذن، هذه العروبة تفاقمت، إلى أن أنتجت الإسلام، بل – بشكل أوضح- استحقت الإسلام. فهذا التعامل، هذا التفاعل مع الطبيعة؛ يعني الإنسان والحضارة – قبل كل شيء – هي موقف: موقف من المكان، موقف من الزمان، وموقف من الإنسان.

د. حسام الدين درويش:

هذا يعني رد الإسلام إلى العروبة، لكن ماذا عن ردّ العروبة إلى الإسلام؟ ماذا عن العروبة غير المسلمة، أو غير الإسلامية، أو غير ذلك؟ هذه العلاقة الوثيقة، عندما تُقام بين العروبة والإسلام، إذا كان المقصود أن الإسلام نتاج عروبي أو عربي، فذلك مقبول. لكن ماذا عن العروبة غير الإسلامية أو غير المسلمة؟

د. سعد كمّوني:

نعم، وهذه هي الإشكالية التي يجب أن تُبذل الجهود الفكرية لحلّها، لا التلفيق، لا أن نخفي، كما يُقال، الوسخ تحت السجادة، ونقول إننا نظّفنا. هناك من يسهم في بناء الحضارة، سواء كان وثنيًّا، ملحدًا، يهوديًّا، مسيحيًّا…. هذا الذي أنتج الثقافة العربية، هل ننفر من شاعر جاهلي مثلًا، لأنه ما كان إبراهيميًّا؟ يقال “حنفيًّا”، فهل ننفر من شاعر نصراني، ونقبل بشاعر حنفي، أو العكس؟ هل ننفر من شاعر وثني؟ كنا نتعامل معه على أنه نتاج تلك المرحلة، من كلّ أبناء تلك المرحلة.

طيب، الإسلام، القرآن، عندما جاء، ألم يخاطب المسيحيين، وخاطب اليهود، وخاطب الوثنيين، وخاطب المشركين، وخاطب كل الأمم، كل الشعوب، على الأقل الموجودة في شبه الجزيرة العربية أو في المدى الحيوي للقرآن؟

الآن، وهذه مشكلة الفقهاء، عندما أمّموا الإسلام، بدل أن يكون كلّ دين هو دين الإسلام؛ لأن “الدين عند الله الإسلام”، جعلوا للإسلام فقهًا، ووضعوا له أركانًا، فبات غير المحمدي، الذي لا يؤمن بأن القرآن كتاب من عند الله، موضع شك، مع أنه قد يكون اطّلع على القرآن أو على سيرة محمد، لكنه لم يؤمن بمحمد نبيًّا، ولم يؤمن بالقرآن كتابًا منزلًا. ما المشكلة في ذلك؟ أأحاسبه وأُصنّفه حضاريًّا؟ لا، المسلم أو العربي غير المسلم، وهذه قد أُجيب عنها كثيرًا في أدبيات القوميين، من قبل، سواء ميشيل عفلق أو أنطون سعادة أو غيرهما، ممن فكّروا في أن الجماعة التي تعيش هنا متنوّعة.

فهؤلاء قالوا إن علاقة العرب بالإسلام ليست كعلاقة أي دين بأي قومية؛ فالإسلام روح العروبة، وغيره. طيب، سيعلم المسيحيون العرب، إذا ما وعوا ذاتهم حقّ الوعي، أن الإسلام لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبّثوا بها. هذه شعارات لا تنفع. يجب أن يعمل المسيحيون العرب والمسلمون العرب من أجل بناء حضاري جديد، بغض النظر عن الخلفيات العقدية، طبعًا هذا سيستثمر مخزونه الثقافي، وهذا سيستخدم مخزونه الثقافي من أجل تصويب، أو تجويد، أو تحسين نوعية الحياة.

د. حسام الدين درويش:

تمام، دعني أقول، أثناء حديثك، خصوصًا في البداية، كان هناك تأكيد جديد على السؤال الذي ربما أول من صاغه بهذه الطريقة هو شكيب أرسلان الذي ما زال حاضرًا دائمًا، وما زال هو المحرك الأساسي للفكر العربي عمومًا. لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ نعم، من ناحية أولى: إلى أي حد ترى أن هذا السؤال هو السؤال الأساس؟ السؤال الأول، أو ما زال يحضر ويستمر؟ الفكر العربي دائمًا في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، هذه من ناحية. لكن، إلى أي حدّ، أثناء حديثك أيضًا، كان هناك حديث عن: كيف نجح محمد وفشلنا نحن؟ طيب، إلى أي حدّ هذا السؤال، بهذه الطريقة، مفيد؟ بمعنى، هناك حدود لهذه الفائدة؛ هل الشروط التي نجح بها يمكن أن ننجح بها الآن؟ مع هذا التغير؟ ما الثابت والمتغير هنا الذي يمكن أن نلحظه؟ طبعًا، يمكن أن نصل إلى أطروحتين متناقضتين: الأولى، الحل بالعودة إلى أو بتكرار كذا… إلخ؛ والثانية، من يقول بالتغير: الحلّ هو بعدم التكرار؛ أي أن نكون أبناء عصرنا. تعرف، مسألة الأصالة والمعاصرة.

د. سعد كمّوني:

صحيح، الحديث ذو شجون حول هذه المسألة. أنا عندما أقول: “لماذا نجح محمد وفشلنا نحن؟” لا أعني تكراره. محمد نجح؛ لأنه كان ضد السنّة؛ القرآن الكريم أخذ مأخذًا على العرب أنهم إذا قيل لهم: “اتبعوا ما أنزل الله”، قالوا: “بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا”؛ فهذا مأخذ على العرب. فجئنا نحن بعد محمد، واعتمدنا سلوك محمد وصحابة محمد وآل بيت محمد منهاجًا نسير به، فلم نصل إلى أي مكان، أو وصلنا إلى ما وصلنا إليه. فإذاً، هنا مبرر السؤال، أو مسوّغ هذا السؤال: لماذا نجح محمد؟ لأنه لم يكن كذلك؛ لأنه حارب الاتباعية، وعزّز نقد الحياة اليومية، الفكر اليومي، وعزّز نقد الرسالات من قبل، شذّبها بطريقة ما.

ليس محمدًا، بل هذا هو القرآن. هذا سلوكه بين الناس. هل نجح استراتيجيًّا؟ ربما من الناحية الشكلية. لكن في الداخل، أنت يجب أن تستعرض كل ما يبدو أمامك على ذهنك، لأيّ سبب، لتصويب الذهن، وليس بالضرورة للقدرة على تغيير الواقع. هذا هو منتهى الأمل.

ما الذي قام به محمد وحركته بالضبط؟ وهذا ما أريد أن أستحضره. وهذا يصلح لكل زمان ومكان، لكن ليس كأحداث، إنما كفكرة. محمد وقف موقفًا جذريًّا من الحياة العربية، من الاجتماع العربي. وقف موقفًا شموليًّا، يشمل كل القضايا المتعلقة. عرض على محمد أن يكون ملكًا فرفض، والتفت إلى أن يحدّد العلاقة بين الزوج وزوجه، بين الابن وأبيه، بين الجار وجاره. فهذا هو المسلك الذي أدى به إلى بناء الحياة. وأيضًا “العلمية”-وإن كان مصطلحًا حديثًا- لكن المقصود هو استيعاب كل التناقضات القائمة في أرض الواقع والتصدي لها. فإذن، هذا الموقف الجذري، الشمولي، العلمي، نعم، أريده لكل زمان ومكان. وهذا ليس اتباعيًّا. هذا الموقف ليس اتباعيًّا. أنا لا أريد أن أكرّر مجتمع المدينة- قيل: 3000 شخص. أما اليوم، أتكلم بحجم الكرة الأرضية. فكيف أستطيع أن آخذ الأفكار التي خُوطب بها الـ 3000 لأتحدث بها إلى المجتمع الإنساني كلّه؟

د. حسام الدين درويش:

طيب، متابعةً للمسألة نفسها، لنقل الكتاب الثاني في الترتيب في حديثنا هنا – وليس بالضرورة ترتيب كتبك – “الخطاب القرآني: القرآن مرجعية للخطاب النهضوي”. يمكن تناول الإشكالية نفسها، بطريقة أخرى. فإذا كانت النهضة مترافقة مع الحداثة والتحديث والمعاصرة، وأن نكون أبناء زماننا ونتعامل مع مشكلاته، ثم نضع القرآن مرجعية؛ يبدو كأنك أوجَدت تأويلاً يُظهر أن ما يُرى اتباعية هو عمليًّا ليس اتباعية على الإطلاق. لكن، العودة إلى أن القرآن ليكون مرجعية للخطاب النهضوي، أمر مستفزّ للبعض أيضًا. وهذا الاستفزاز الفكري والعقلي أمر محمود، لا مذموم. فهل يمكن شرح ذلك؟ شرح الكتاب؟ إلى أيّ حد، وبأي معنى، يمكن الحديث عن القرآن بوصفه مرجعية للخطاب النهضوي؟

د. سعد كمّوني:

نعم، أنا لم أقل “القرآن مرجعيةٌ”، قلت: “مرجعيةً”؛ “مرجعيةً” هنا حال، سدّ مسدّ الخبر، كونه مرجعية، وليس إخبارًا عن القرآن بأنه مرجعية. إنه، في حال كونه مرجعية، فما الذي نريده منه؟ هذا هو الأمر. وأنا لا أدعو إلى أن نضبط الواقع وفق قوانين دينية أو وفق نصوص، سواء أكان القرآن أو غيره. لا، أنا أريد أن أفهم النصوص من خلال علاقتي مع الواقع الذي أعيش فيه. وهذا سيختلف طبعًا. في هذا الكتاب، استعرضت مواقف قرآنية، وتساءلت: لماذا عرضها محمد على قومه مثلًا؟ ما الذي أراده القرآن من وراء عرض قصة إبراهيم مع أبيه؟ في مسألة التأليه: ولد كان يلعب في معمل أبيه- وهذا في النظام المعبدي معروف، من هو أبوه، سيكون له سلطان على المؤمنين بأصنامه وغيره- فهذا الولد، الذي نشأ بين هذه الأصنام، وكبر، وطُلب إليه أن يذهب ليبيع هذه الأصنام في السوق، يبيعها آلهةً، فتعجب: كيف تكون آلهة، وأنا أداعبها بقدمي؟ فلماذا عرض الله هذه المسألة على محمد؟ وما علاقتها بالمشروع الذي يحمله القرآن لمستقبل الإنسان العربي وغير العربي؟ فهذه من ناحية، ومن ناحية ثانية، حاولتُ الإجابة عنها في هذا الكتاب، وهذا مهم جدًّا بزعمي على الأقل.

والمسألة الثانية: المسألة اللغوية. أنطلق من مقولة أحبّها كثيرًا لأرسطو: “ليس المهم أن تقول الحقيقة، ولكن المهم أن تقولها كما ينبغي أن تُقال”. فما الذي يحدد كيف ينبغي أن تُقال؟ هذا سؤال مشروع بلا شك. فالطريقة التي قال بها إبراهيم لأبيه، ليرفض تألّه أبيه وسيطرته، وليبحث بالتالي عن إله يرضيه، كانت اللغة مهمة جدًّا. “إني أراك وقومك في ضلال مبين”، لم يقل له: “أنت في ضلال”، أو “أنت ضال”. “إني أراك”؛ أي يمكن أن يكون لك رأي آخر. فاللغة مهمة جدًّا، أو الطريقة التي يُعتمد بها.

فأنا كنت أرى أن الخطاب القومي، الخطاب الذي نتحدث فيه عن الفشل القومي، هو وراء كل هذه الأعمال. وما زلت منشغلًا بهذا الهمّ. طبعًا، لا أستطيع أن أنقذ العمل القومي بمآسيه الكبيرة، ولكن أستطيع أن أنقذ قناعاتي، على الأقل، وقناعات أشباهي، بأنه لا بد من بناء إنسان عربي جديد. فدائمًا، ما نريده لحياتنا، ما نريده لأولادنا، ما نريده لمستقبلنا، لن أبحث عنه في النصوص، ولكن سأتعلّم من خلال هذه النصوص كيف نواجه التحديات، وإن تشابهت بعض فقراتها، وليس كل الفقرات.

د. حسام الدين درويش:

يمكن لفكرك كله أن يطرح سؤالًا عن الأساس الذي ينطلق منه من ناحية، وعن الجمهور الموجّه إليه من ناحية أخرى. فإلى أي حدٍّ يعدّ هذا فكرًا إيمانيًّا موجّهًا للمؤمنين، لكونه يتحدث عن “منهج الدعوة إلى الله”، و”دعوة الأقربين”، و”الأمل”، و”النهي”…إلخ. فهذه مفردات أو مسائل يبدو أنها تهمّ المؤمنين، وليس في هذا عيب. لكنني أميّز هنا بين فكرٍ إيمانيٍّ، بمعنى قائم على الإيمان بعقائد، بأفكار، بأشياء… إيمانٍ بالمعنى الديني هنا، وموجَّهٍ إلى مؤمنين؛ أي إلى من يشاركني هذا الإيمان فقط، وفكرٍ بحثي يتناول المسائل نفسها، لكن منطلق المشترك الإنساني، ما تحدث عنه العقل والمنطق، وما يمكن إثباته، وما يمكن نقاشه دائمًا، وتناوله بالسؤال والبحث. من وجهة نظري، وهذا انطباع للنقاش، للتفاكر حوله، فكرك ينوس بين الطرفين، ليس متموضعًا في طرف واحد؟ عندما أقرأ بعض النصوص، أجد فكرًا إنسانيًّا بالمعنى الذي ذكرت، وفي أجزاء أخرى، أرى أنه مخصصٌ لجماعة مؤمنة معينة ما رأيك بهذا الانطباع؟ أرجو أن (لا) يكون استفزازًا كبيرًا.

د. سعد كمّوني:

لا، ليس استفزازًا، بالقدر الذي أشكرك فيه على هذا السؤال الذي سيفسح لي في المجال لتوضيح أمرٍ ما.

مسألة الموقف الشخصي: إن كنت مؤمنًا أو غير مؤمن، فهذا موقف شخصي. أما من الناحية التي أنا مضطر إليها، لأني أؤمن بها، فهي أنه من المستحيل أن تسعى من أجل بناء إنسان عربي جديد، وأنت تدير ظهرك للقرآن. السبب: أنه يشكّل الجزء الأكبر من مكوّنات العقل العربي أو الذهن العربي، حتى لا يعترض علينا الذين يريدون عقلًا إنسانيًّا، ويرفضون فكرة “العقل العربي”. مستحيل أن نسعى من أجل بناء إنسان عربي جديد، ونحن متجاهلون لكلّ ما ينطوي عليه ذهنه. كيف يمكن أن نطوّر؟ هل كل ما ينطوي عليه ذهنه؟ طبعًا، ربما يكون هو تعامله مع القرآن على أنه كلام مقدّس للتبرّك فقط، وليس لأكثر من ذلك. هو لا يرى فيه مشروعًا نهضويًّا، لا يرى فيه إضاءة لتأسيس مشروع نهضوي. هل في كل مرة يجب أن نجدد أنفسنا نعود إلى الصحابة، إلى الأوائل، إلى المفسرين الأول؟ أم إنه يجب أن نستثمر ما تعلّمنا، وما تثقفنا، وما فهمنا، وما يتحدانا الآن، علينا أن نستوعبه، ومنه نقرأ وننطلق؟ أنا عندما أقول، أو أسمح بأن أُصنَّف ما بين المؤمنين- وهذا ليس سُبّة، كما ذُكر- لأني أريد أن أفهم، وأريد أن يفهم المتلقّي لنصوصي أني أتكلم من خلال أجوائه، هو يؤمن بكذا، طيب، تعال لنفهم: بماذا تؤمن؟ قبل يومين، ربما كنا نتجادل، وكان لي صديق أجادله حول مسألة سيدنا إبراهيم، مثلًا، أنه عندما رأى الشمس قال: “هذا ربّي”، وعندما رأى القمر قال: “هذا ربّي”، وعندما رأى… طبعًا، لم تكن تلك المرة الأولى التي تظهر فيها الشمس في السماء الآرامية في ذلك الزمن، ولا القمر، ولا غيره. وفي النهاية قال: “وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض”، لم يقل: “لله”، لم يقل: “وجّهت وجهي لله”، بل قال: “للذي…”، فقلت: هو لا يعرف الله. ولكن، السؤال المُقضّ الذي كان يقلقه بشكل دائم هو: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ الأسئلة العريقة المعروفة، التي تلحّ على كل إنسان. إما أن ينحّيها، وإما أن يتفاعل معها. فهو وصل إلى هذه الخلاصة. طيب، هذه الخلاصة، يمكن أن أصل إلى خلاصة أخرى. ممكن أن أفكر بطريقة أخرى، ممكن. ولكن اعرفها وارفضها، أو اعرفها واقبلها.

د. حسام الدين درويش:

بالانتقال إلى الكتاب الثالث “العلمنة والأسلمة، نعم ولكن، يبدو العنوان مثيرًا، أو “مستفزًّا”. ويمكن القول إن الإجابة ﺑ “نعم، ولكن”، إجابةٌ فلسفيةٌ، لأنها تستبعد اﻟ “النعم المطلقة” و”اللا مطلقة”. وأثناء حديثك، ميّزتَ، في إطار الحديث عن علاقة العروبة بالإسلام، بين كونها مشروعًا ثقافيًّا (وهذا ما تتبنّاه)، مشروعًا حضاريًّا، مشروعًا فكريًّا… إلخ، وكونها مشروعًا سياسيًّا، وهو ما لا تتبناه. سؤالي هنا: بأيّ معنى يمكن أن تكون العروبة مشروعًا ثقافيًّا، من دون أن تكون مشروعًا سياسيًّا؟ والسؤال الذي قبله قد يكون مؤسِّسًا له: إلى أي حد يمكن الفصل بين الاثنين؟ أو يجب الفصل بينهما، سواء من حيث الواقع أو من حيث ما يجب أن يكون؟ هل يمكن أصلًا لمشروع ثقافي أن ينجح من دون أن يكون، بمعنى ما، مرتبطًا بمشروع سياسي؟ أو العكس؟ فهذه الثنائية أراها مثيرة للتفكير.

د. سعد كمّوني:

والله، المسألة طبعًا مثيرة ومهمة جدًّا، ويجب أن نتعامل معها بهدوء، ببرودة العقل؛ لا بد منها. فالمسألة: كيف نسمح للسياسي أن يستغل معتقدي من أجل تحقيق مآرب سياسية، حتى وإن كانت نبيلة؟ يجب أن يكون العمل من أجل تحقيق هدف سياسي شعاراته سياسية، مسوغاته سياسية واقعية، طبعًا. ولكن أن نستغل معتقدات الناس، ونحرّض الناس لتحقيق مآرب سياسية، وإن كانت نبيلة، فهذه مسألة لن توصلنا إلى أيّ مكان، أو على الأقل، لن توصلنا إلى المكان الذي نريده لمجتمعاتنا ولأبنائنا.

المشكلة في أن الخطاب القومي استغلّ العروبة، هو يريد مشروعًا سياسيًّا: بناء المجتمع العربي الاشتراكي الديمقراطي الموحّد، وراهن على إمكانية تحقيق ذلك، انطلاقًا مما تنطوي عليه العروبة من عناصر جامعة، من عناصر موحّدة، ومن عناصر حضارية، تاريخية، مثل ما يشكّل الهوية القومية أو الهوية لهذه الجماعة من الناس، مثل الثقافة، والعادات، والتقاليد، والقيم، والأخلاق، والتعبيرات، والإبداعات… هذا النسيج المتماسك من هذه المنظومة القيمية، هو ما شكّل العروبة، والإنسان يولد فيها، وينمو داخل هذه الثقافة، ويتطور بها. أما المشروع السياسي، فأصحاب هذا المشروع راهنوا على هذه العناصر في العروبة، فوضعوها في المقدّمة، وناضلوا أو عملوا سياسيًّا من أجل مآرب كانت تنحرف كثيرًا عن مساراتها، أو عما يُفترض أن يكون مساراً لها ومصيرًا. فطبعًا، إذا أردنا أن نجعل إنساننا اليوم جزءًا من الإنسان العالمي، فلا أسمح بتكرار التجربة السابقة. لا أسمح، طبعًا، من أكون أنا حتى أقول: “هذا ممنوع”؟ لا أسمح فكريًّا، يعني ينبغي ألّا تتكرر.

أنا لا أريد أن تتكرر هذه التجربة، حتى وإن أخذت أسماء أخرى. فالتيار القومي العربي وصل إلى هزائم متتالية، ومرعبة. طبعًا، نحن نتكلم على الهزائم، لا نتكلم على الإنجازات. لهم إنجازات عظيمة جدًّا ومهمة جدًا، لا تثريب عليها. لكن الهزائم الحضارية الآن تضعنا على شفير الهاوية، وربما هي مرحلة ضرورية، أو ممر إجباري لا بد منه. وكذلك الإسلام السياسي، فليست المشكلة فقط هي مشكلة القوميين العرب، بل كذلك المسلمين السياسيين أو الإسلاميين، الذين طرحوا الإسلام لأغراض، وقالوا: هذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان، وهذا هو أن نبني مجتمعًا بلا حدود، بلا وطن، يعني لا قيمة للأوطان، ويؤسلمون كل شيء؛ “إسلامية المعرفة” إلخ.

د. حسام الدين درويش:

ننتقل إلى مسألة العلمنة والأسلمة، التي تناولتها في إطار حوار ونقاش جدّي ورصين، مع أطروحات المفكر الراحل جورج طرابيشي، وله تعقيب أو رسالة منشورة ضمن الكتاب أيضًا. إذن، “نعم” هنا ليست لأحد الطرفين فقط، بل “نعم” لكليهما. ولكن بعد هذه “النعم” لكليهما، بأيّ معنى هناك “نعم للعلمنة” و”نعم للأسلمة”؟ وبأيّ معنى هناك استدراك أو تحفّظ أو “لا” ضمنية، أو “كلا” ضمنية؟

د. سعد كموني:

لا أريد لا كلّا ولا نعم، حتى أنا من الأساس مرتبك أمام هذه المفردات. نعم، لكن نعم الأسلمة والعلمنة، يا أخي، العلمنة حادة جدًّا، وكذلك العلمانيون. أنا أتحدث عن العلمنة السطحية دون تعمق فيها، هي شكل مغرٍ؛ لأنها تنطوي على كثير من الحرية. حتى أني كنت أقول، حرصاً على دين محمد، لن أنتخب إلا العلمانيين، لماذا؟ لأنني أشعر بقيمة الحرية، ولكن طبعًا التجارب الغربية الأخيرة غير مشجعة. بالنسبة إلى الأسلمة، طيب، من قال لك إن هذا هو المشروع الإسلامي؟ محمد طرح دولة الرسول في المدينة، ولا أعرف، المهم أن هذه الصحيفة لم تُذكر في القرآن، يعني ليس مشروعًا إلهيًّا، وتم التخلي عنه بعد سقوط هذه الصيغة المهمة جدًّا، والتي تعدّ الأولى في الكلام على حقوق الإنسان أو التنوع بين الناس.

المطروح علينا بفكر أبو الأعلى المودودي، أو محمد إقبال، أو سيد قطب أو غيرهم بتنوعاته، ويقولون إنهم متطورون ومختلفون، أو فكر الخمينية وما لحقها من أذرع في حياتنا. كل هذا لا يعني، لا يرضيني ولا يرضي تطلعات أي كائن عربي أو إنساني يتطلع إلى مجتمع ما بعد الحداثة، مجتمع الذكاء الاصطناعي، مجتمع الفتوحات العلمية غير المحدودة التي تجعل الإنسان على كل شيء قدير.

د. حسام الدين درويش:

في نقاشك مع جورج طرابيشي، كان الطابع، لن أقول انتقاديًّا فقط، بل كان نقديًا. وجورج طرابيشي هو أحد صقور العلمانية. فمقابل “الإسلام هو الحلّ”، يتبنى شعار “العلمانية هي الحل”. تجد لديه هي الحل. ومقابل “الجهادية الإسلامية”، هناك “الجهادية العلمانية”، بوصفها “جهادية دنيوية”. سؤالي هنا: إلى أي حد ترى أن نقاش فكر هذا المفكر القدير الذي يتخذ شكلاً حادًّا أو “متطرفًا” هو السياق المناسب لطرح هذا الموضوع؟ ألا يؤدي ذلك إلى التنفير من هذا الطرف أو ذاك، من الأسلمة أو الإسلام ومن العلمنة أو العلمانية؟

المطلوب، هو الخروج على هاتين المفردتين بما يدلّان عليه من مفهوم؛ لأنهما باتتا مباحتين، ونشرتا إباحية فكرية كبيرة. الذي أريده، طبعًا، هذا التطرف، التصلب العلماني والتصلب الجهادي، ربما يكون مفيداً في مراحل تأكيد الذات؛ يعني المسلمون يريدون تأكيد ذاتهم من خلال هذه النخبة الجهادية، والعلمانيون يريدون تأكيد ذاتهم من خلال نخبهم وطروحاتهم.

طيب، انتهينا من مسألة تأكيد الذات، ماذا بعد؟ هل سيبقى هؤلاء العلمانيون والإسلاميون متعايشين ظهرًا لظهر؟ وجهًا لوجه ماذا سيكون؟ أليس من سبيل آخر بيننا، إلا قاتل أو مقتول؟ الذي أريده أنا مجتمع يوفر لي إمكانية الخطأ، أو يحميك منّي ويحميني منك، هذه المنظومة التي أريدها أولا وأخيرًا، لها جذورها في العلمانية، نعم، ولها جذورها في الإسلام، نعم. ولكن الذي يجري بين العلمانيين والإسلاميين هو أنهم يتحاورون ظهرًا لظهر، أو قنبلة لقنبلة، ونحن نريد أن نتجاوز هذه المسألة. المرحوم جورج طرابيشي كان ينتقد حتى عدم قدرة أهل الشام على أن تكون هناك مقابر تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود وكل الأصناف، تجمعهم في مقبرة واحدة، لماذا أنا المسيحي يجب أن أُدفن في مقبرة بعيدة عن المسلمين؟ ولماذا المسلم؟ يعني، أنا لا أريد أن ألغي هذا، لا أريد أن أنسب للإنسان أنه يصل إلى هذه الدرجة. إذا كان المطلوب أن ندفن جميعنا في مدفن واحد، يجب أن أصل إلى هذا دون أن يكون هناك قانون يلزمني بذلك. هذه المشكلة بيني وبينه، هو يريد قوانين تلزم الناس بسلوك ما. حتى إنه كان يتساءل دائمًا في كل جولة حديث: هل أوروبا علمانية؟ لأنها كاثوليكية، والعرب لا يمكن أن يكونوا علمانيين؛ لأنهم مسلمون؟

د. حسام الدين درويش:

هو في ردّه على هذه المسألة في الرسالة الموجهة إليك، يوضح فيها رأيه في هذه المسألة المثيرة. سأتعامل مع هذه الرسالة من منظور أنها استمرار للحوار بينكما حتى بعد رحيله، ومن حقنا أن نعرف رأيك في ردّه. وفي ذلك الرد يشدد على أنك إما فهمت غير ما قصد، أو عكس ما قصد. ومن ذلك نقطة حديثه في النقاش في الكتاب، أن أوروبا تقدمت لأنها مسيحية. فهو لم يقل ذلك. إلى أي حد ترى أن هناك فهمًا مغايرًا لقصده المعلن. أنت كنت متلقيًّا للنص، وبالتالي أنت منتج للمعنى، ولست مجرد متلقٍّ بالمعنى السلبي؟ إلى أيّ حد ترى أن لديك فهمًا مغايرًا للفهم الذي لديه، أو عكسه كما قال عمومًا، وفي هذه النقطة خصوصًا؟

د. سعد كمّوني:

أنا كنت أتفق معه كثيرًا، وطبعًا نحن نريد أن نقدّم ما نختلف عليه. أما ما نتفق عليه، فهو كثير وواضح، والذي نضعه أمام الناس هو ما نختلف عليه، وهذا من حق الناس. هو لم يكن حادًّا إلى هذا الحد، ولكنه كان يقول لي تجربة مصطفى كمال أتاتورك، وهذا كان يستفزّني كثيرًا، عندما يقول تجربة مصطفى كمال أتاتورك في القضاء على اللغة والقطيعة التي أحدثها مع أبناء شعبه، أو أبناء شعبه مع تاريخهم، من خلال تبديل الحرف العربي الذي كان يُستخدم إلى حرف لاتيني؛ فهذا الأمر كان معجبًا به.

قلت له: وهنا كانت المشكلة بيني وبينه حول اللغة، مع أنه كان متخصصًا في اللغة العربية وله ترجمات بالضبط، وأنا أعرف حماسته للغة. صار يقول إنك تقول عني هذا القول، وهو يستغرب، وأنا أقول له: لا أحاسبك، لست في محكمة، أنت حرّ أن تقول ما تقول. ولكن بالنسبة إلى هذه المسألة التي كان معجبًا بها، كنت أستغرب كيف يمكن أن نلغِي هذا الحرف العربي مثلًا حتى نقطع الجيل الحديث عن تراثه، ونحرمه من قراءة هذا التراث عندما نقدم له كتابات بأحرف لاتينية، أو بأحرف جديدة نختلقها نحن. وبالتالي الجيل بعد جيل، كما حصل في تركيا، يكون على قطيعة مع تراثهم، وتراث الإسلام، وحتى تراث أرطغرل.

فكيف تريد هذه العربية؟ هو يقول لي: أنا لم أقل هذا. قلت له: الذي كتبته يقول ذلك. أنت كتبت بطريقة أعرف جورج طرابيشي أنه لا يريد هذا. النص يقول غير ذلك، وهذا سيبقى. قال لي: أنت محق في هذا، فأنا اكتفيت بهذا. اعتبرت أن هذا تواضع العالم، عندما يقول لي أنت محق وأنا أجل هذا الموقف.

أنا أرى أمورًا ممكن أن تؤدي إلى النتيجة التي كان يريدها هو. مثلاً، إذا كانت القطيعة يجب أن تحصل ما بيننا وبين التاريخ العربي، تقتضي أن نغيّر الحرف العربي، وهو بالنسبة إليه أمر سهل، فليكن. بالنسبة لي، مع أن النتيجة قد تكون واحدة.

د. حسام الدين درويش:

دعني أنتقل إلى مسألة لغوية، إحداها لغوية بالمعنى التقني، والأخرى لغوية بالمعنى المفهومي. هو يقول في نهاية الرسالة: “تطبيق مفهوم العلمنة على اللغة العربية ليس مطابقًا لواقع الأشياء، ولا بد من استبداله بمفهوم العصرنة”. ص 151. المسألة التقنية هي مسألة استبدال، تعرف، يجب أن تكون على المَتروك، تدخل المَتروك، لكن من الصعب التقيد التقني بقواعد اللغة العربية مع فعل استبدل. وغالباً عندما أواجه هذه المشكلة أضع “حل محل”. هذا السؤال التقني. لكن السؤال المفهومي، بأيّ معنى يمكن القول إن تطبيق مفهوم العلمنة على اللغة العربية ليس مطابقًا لواقع الأشياء، وما البديل؟ وهل العصرنة هي البديل؟

د. سعد كمّوني:

لا، سأقول باختصار شديد: اللغة العربية، يقول أدونيس، أن القرآن صادر اللغة العربية، وشحنها بمفاهيم ومفردات وتعابير وابتكارات، إلى آخره. هذا قول أدونيس. جورج طرابيشي لم يقل هذا حرفيًّا، لكنه كان مؤمنًا بذلك. لهذا، يقول إن عصرنة اللغة هو انتزاعها من هذه المفاهيم، أو انتزاع اللغة من هيمنة المفاهيم القرآنية والإسلامية التي تهيمن عليها. فكلّ كلمة في اللغة العربية المتداولة الآن، نجد خلفها آية أو حديثًا أو مأثورة معينة. فهذه المسألة لا أعتقد أنها تحلّ بهذه الطريقة.

د. حسام الدين درويش:

ومفهوم التقنية، تقنية الاستبدال “أنت تركته على حاله”، مع العلم أنه خطأ من الناحية اللغوية التقنية أن تستبدل بمفهوم العصرنة. هنا يجب أن نترك العصرنة، ونذهب إلى العلمنة.

دعني أنتقل إلى وضع المرأة، ومنظور الإسلام والإسلاميين لها. وهذه المسألة أثيرة لدى مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ليس، (فقط)، لأن مديرتها الدكتورة ميادة من النساء الفاعلات والرائدات في مجالها، بل، (أيضًا)، لأنها تجسد الامتحان الأكبر والأهم امتحان للفكر الإسلامي، وهو الامتحان الأخلاقي، والامتحان العملي المتعلق بمسألة كيفية التعامل مع الآخر عمومًا. والآخر الذي نتحدث عنه هنا يكوِّن ويمثل نصف المجتمع: المرأة. دعنا أولاً، كمدخل للموضوع، نقول إنه يوجد حديث في الكتاب عن مدى أهمية وأولوية، هذا الموضوع، فلمَ وكيف هو مهم؟

د. سعد كمّوني:

مسألة مكانة المرأة في الحياة يجب أن تكون رئيسة، حتى يكون المجتمع حضاريًّا، وإلا فلن يكون حضاريًّا، إذا كانت المرأة متنحية، والمرأة هي نصف المجتمع، فإذا كان نصف المجتمع مشلولاً، فكيف تطالب المجتمع بالمشي؟ هذا من ناحية. من الناحية الثانية، أنا أتحدث عن “ما ملكت أيمانكم”، هذه المفردة أعتقد أنها فُهمت خطأ. أنا لا أنفي أنه كان هناك عصر استرقاق، وعصر بيع وشراء للعبيد وغير ذلك، كان العصر موجودًا، ولكن لم يأتِ في القرآن من يشجع أو يحث على الاسترقاق أو الاستعباد أو غير ذلك. من الناحية الثانية، لم يثبت عن الرسول أنه كان يسبي النساء. كل الروايات التي تحدثت عن السبي والسجناء

د. حسام الدين درويش:

ليست سبيًا بمعناه الحقيقي، بل هدية.

د. سعد كموني:

“هديّة”، نعم أخذها وكرمها وتزوجها. كتب السيرة تقول إنه تسرّى بها، وأنجب منها وغير ذلك قبل الهدية.

د. حسام الدين درويش:

أنت تشدد في كتابك على أن أولى القضايا التي تحتاج إلى إعادة النظر هي قضية الحرية عمومًا، وحرية المرأة خصوصًا.

د. سعد كموني:

أحسنت، وكيف نمضي بدون ذلك؟ المرأة التابعة للرجل لا تنتج، والرجل الذي يستتبع المرأة لا يستطيع أن يحدثني، أو ينبغي ألا يحدثني عن مستقبل مزهر. هذا الإنسان متمرس في الاستعباد والاستتباع، لا يحمل أفكارًا للتطلعات والحرية. المشكلة مشكلة علم ووعي وعقل وجهل وغير ذلك. طالب بالحرية، قل للجاهلة: أنت حرة، فتبدأ بخلع ثيابها، لكن ليس هذا هو المطلوب، ليس هذا الذي نريده. عندما نقول “المرأة الحرة” يعني حرية التفكير وحرية الاعتراض على التفكير، حرية اتخاذ القرار أيضاً. لماذا أريد أن أمنح المرأة حريتها؟ هي التي تريد أن تكون حرة، ليس أنا الرجل الذي أمنحها هذه الحرية، ولا هي يجب أن تطالب الرجل بأن يمنحها الحرية، كيف يكون ذلك؟ هذه ستكون مدينة لمن منحها هذه الحرية، وهذه الحرية بين مزدوجين، قد تكون فلتانًا.

د. حسام الدين درويش:

أعود هنا لأربط هذه المسألة بالمسائل الأخرى التي كنا نتحدث عنها. هناك شبهة في كل الأديان، ومنها الإسلام، أو خصوصًا الإسلام، أنها قد تنتج غالبًا موقفًا سلبيًّا من المرأة. في كل الأديان هناك ما يسمى بالأصولية. وقد نشأ مفهوم الأصولية في إطار الحديث عن البروتستانتية والإنجيلية، لكنه ظهر أيضًا في الكاثوليكية، والأرثوذكسية، والبوذية، وطبعًا الإسلامية، هناك أصوليات دينية دائمًا، وهذه الأصوليات، غربية وشرقية، لها موقف سلبي من المرأة، إلى آخره. ما السبب؟ هذا لا ينفي أن هناك مواقف دينية، انطلاقًا من الإسلام أو المسيحية أو غيرها، تتخذ موقفًا مغايرًا، لكن دائمًا هناك شبهة في الأديان، ودائمًا في الأديان هناك اتجاهات تتخذ من الدين أساسًا للاعتداء على المرأة، للانتقاص منها، ولعدم الاعتراف بمساواتها، ولجعلها تابعة وأدنى وغير حرّة. أنا معك، حين قلت: كيف تكون حرّة أصلاً؟ كيف يمكن أن تكون مسلمة إذا لم تكن حرة بالضبط؟ كيف يكون لديها دين، إن لم تكن لديها حرية الاختيار؟ كيف يكون لديها أخلاق؟ فمن المفترض أن تكون الحرية هي الأساس في الدين والتدين. لذا أود أن أسألك عن هذا الرابط، الجزئي والنسبي، بين التوجهات الأصولية أو المناهضة لحرية المرأة، أو لتمتعها بحقوقها، والأديان، كيف تفسره؟

أحد التفسيرات هو أن الأديان نشأت في سياقات تاريخية قديمة، حين كان المتدينون، وغير المتدينين، أفلاطون مثلاً، لا ينظرون إلى المرأة كإنسان كامل، بل ككائن من درجة ثانية أو عبدة أو غير ذلك. فالمسألة ليست متعلقة بالأديان بحد ذاتها، وإنما بفكر نتج أو أنتج في عهد سابق، وهذه هي المشكلة. هذا أحد التفسيرات، وهناك تفسيرات أخرى.

د. سعد كمّوني:

بالطبع. لا نريد أن نخمّن كثيرًا، لماذا هذه النظرة إلى المرأة؟

د. حسام الدين درويش:

هل توافق على وجود هذه النظرة؟

د. سعد كمّوني:

النظرة موجودة، ولكن ما أريده هو أن هذه النقود يجب أن تُوجَّه إلى فهوم، وليس إلى النص بذاته. النص يجب أن يخضع للتأويل، وما لم أستطع أن أفهمه الآن قد أفهمه غدًا، المتهم ليس النص. المتهمون هم المسلمون، فقهاؤهم وعلماؤهم وأنسباؤهم أيضًا، وكذلك الأصوليون من كلّ المذاهب وكل الأديان والمِلل، وكثير من الأساتذة، ونحن نعرف، وأنت تعرف، لك زملاء في الجامعات، وغيرهم، ذكوريون، مع أنهم يدّعون التقدم يومًا بعد يوم بطريقة أكثر. كل هذه الهيمنة الذكورية قائمة، ولها ما يبرّرها ربما تاريخيًّا وبيولوجيًّا وأوضاعنا السياسية والاجتماعية. الهزائم التي نتعرض لها، المرأة أول ما يُستهدف منها الهزيمة، حتى في العصر الجاهلي، يعني العلامة الأولى على وجود الهزيمة هي في مهانة المرأة، تكون الضحية الأولى هي المرأة، وستُعَدُّ القبيلة أنها أهينت كرامتها بالمرأة. لذلك، عندما يُبشَّر أحدهم بالأنثى، ظلّ وجهه مسودًّا وهو كظيم، يعني لها ما يسوغها تاريخيًّا.

أما التوجه أو القرآن، فأقول لك: هل كان مع الذين بايعوا الرسول؟ كانت هناك إناث؟ نعم، كانت هناك إناث أيضًا. تحكي لنا السرديات والمرويات، أن عمر بن الخطاب كان يلقي خطابًا – لا أعرف المناسبة إن كانت مناسبة أم لا – ووقفت واعترضت امرأة كانت موجودة، وقال إن عمر أخطأ، وأصابت المرأة.

أين كانت؟ أليست في المجلس، إذاً كانت حاضرة في المجلس، وكانت المجالس تضم مسلمين وغير مسلمين وذكورًا وإناثًا على السواء، وكانت المجالس تطلعاتها تقدمية، وكانت متجاوزة للعصر الذي كانت فيه، وكانت المرأة متقدمة أيضًا في عصر النبوة. كان هناك مشروع نبيّة، سجاح مثلاً.

د. حسام الدين درويش:

إذن ترى أن الدين في بداياته، في ذلك العصر، كان تقدميًّا في هذه المسألة.

د. سعد كمّوني:

في الدرجات الأولى للسمو.

د. حسام الدين درويش:

دعني أطرح سؤالًا يتعلق بمسألة الجمع بين الفكر والشعر، بين الفكر والدراسات الفكرية والشعر، إلى أيّ حد يمكن لكل طرف أن يستكمل ما يقوله الآخر، أو أن يقول ما يكون الآخر عاجزًا عن قوله؟ أم هل هناك تناقض؟

د. سعد كمّوني:

جميل جدًّا أنك أتحت لي فرصة التعبير عن هذه المسألة. الحقيقة أن الشعر عندي، والرواية، وغيرهما، هما أول ما عرفت تقنياتهما في هذه الحياة. وكنت منسجمًا فيهما مع كل الحماسة التي كانت قائمة في الواقع، ومع الثورة والثوار وعلى كل المستويات، وكان من السهل أن نحمّل أشعارنا هجومًا ندمر فيه إسرائيل، ونحطم أمريكا والبيت الأبيض إلى ما هنالك. كان الشعر هكذا. عندما وجدت أن الأمور لا تحتاج إلى هذا، بل تحتاج إلى تعقّل وغيره، يعني، لم أكن متعقّلًا، ولكن كنت أعبر عن اندفاعاتي ووجداني بهذه الطريقة الموزونة المقفاة.

أما الرواية، فقد كانت مهمة، كانت شجرة في الرأس، لخّصت تجربتي كلها، مثل تجربة درويش بين القدر والمصير. هذه التجربة عندي كانت صحيحة، كتيب صغير، عن علاقتي بالأحزاب، مع الثورة الفلسطينية، مع العمل الوطني، مع المعتقلات، سواء الصهيونية أو العربية.

المهم أنني اختصرت ذلك في هذه الرواية، التي قررت فيها، في النهاية، أن أكون ما بعد هذا الوجدان، أن أوقف هذه العاطفة؛ لأنّها توصلني إلى التهور، والشعر هو تهور الثقافة.

د. حسام الدين درويش:

ما مشاريعك القادمة؟ فبالإضافة إلى 12 كتابًا التي سبق أن صدرت، أعلم ان هناك أخرى قيد الطبع والنشر او قيد التأليف والكتابة، ماذا عنها؟

د. سعد كمّوني:

المشاريع القادمة، طبعًا على المستوى الفكري، هناك مسألة الابتلاء الإلهي يجب أن أدرسه، وقبل أن أصل إلى الابتلاء الإلهي، أدرس الآن – وهو قيد الإنجاز تقريبًا – التذكر والتفكر بوصفهما منهجين للتعامل مع الكون، ومظاهر الكون، وأثاث الكون برمته. هذا قيد الإنجاز من الآن إلى حين إذا أراد الله.

د. حسام الدين درويش:

استكمالًا للسؤال السابق عن مشروع او مشاريعك، أود ان أسألك عما قد يصح القول إنه مشروعك، بوصفه جزءً من وجودك أو امتدادًا لوجودك، رغم أنه وجود مستقل: وهو الدكتور والفيلسوف خالد سعد كموني، ابن حضرتك: إلى أي حد ترى تأثير وتأثرًا بينك وبينه، ولا سيما عندما اقتبست من هايدغر، أو غيره؟ والدكتور خالد يركِّز، هو أيضًا في أبحاثه، على الجانب اللغوي حتى في الفلسفة. إلى أي حد ترى تقاطعًا واستمرارًا وتأثيرًا وتأثرًا في هذه المسألة؟ تعرف، حتى في المهن، في الثقافة العربية، هناك شيء من التوريث. والدي كان نجارًا، فأصبح نجارًا، ووالدي مفكرًا فأصبح مفكرًا. إلى أي حد ترى هذه العلاقة بكل أبعادها؟

د. سعد كمّوني:

طبعًا، عندما اختار أن ينحو هذا النحو، قلت له: أنت اخترت الطريق الأصعب، لكن مواده الأولية موجودة، المكتبة التي كانت في البيت سبب اختيارك. لذلك، كان خياره إسعادًا لي؛ لأنني سأستطيع أن أقدم له ما يريده. غير أن يختار الكيمياء أو الفيزياء أو غيرها، وكان ناجحًا ومتقدمًا بهذا أيضًا. فما الذي أريد أن أقدمه له؟ لا شيء سيتفلت من هيمنتي بالكامل، وهو الآن متفلت كلّيًا، لا أقول: متفلت؟ لا أحب هذه المفردة، هو مستقل تماما، وربما بات يؤثر بي بالقدر نفسه الذي كان منّي. هو شخصية أخرى هو منفعلٌ أحاول من موقع الصداقة بيني وبينه أن أحدّ من انفعالاته.

التأثير والتأثر. أنا أقرأ ما يكتب وبشغف، وهو يقرأ ويتابعني، وكثير من اندفاعاته الفكرية. لا ألومه كثيرًا، لكن أحاول أن أحدد، وطبعًا ما زال هو لا يوافقني، ما زال كثير الاندفاع، ويتمنى أن يكون بيده سيفًا، وأنا لا أتمنى ذلك.

د. حسام الدين درويش:

دكتور سعد كموني، شكرًا جزيلًا لك على هذا اللقاء الجميل والثري، وأتوقع وأتمنى أن يكون مفيدًا وماتعًا للجميع.

د. سعد كمّوني:

شكرًا جزيلاً لك دكتور، وشكرًا للدكتورة ميادة كيالي، وللدار التي نعتزّ بها، وأعتز بأن كثيرًا من مكوناتي الذهنية ساهمت فيها هذه الدار ومنشوراتها. شكرًا، وإلى لقاء آخر، إن شاء الله.