منبعا الدين وأنواع التجربة الدينية
1. في مفهوم ‘الدين’:
1.1. في اللسان العربي:
يحيل مفهوم ‘الدين’، في اللغة العربية، على معان متعددة، ويُؤخذ من أفعال وتعبيرات كثيرة؛ فيُستمد أحياناً من فعل (دَانَه يدينه)، وأحياناً أخرى من فعل (دَانَ لَه)، كما قد يؤخذ أيضاً من فعل (دان به). وكلما اختلف هذا الأصل الاشتقاقي اختلف المعنى؛ فحينما نتحدث عن الصيغة الأولى: «’دانه دينا’ عَنَينا بذلك أنه مَلَكَهُ، وحكمه وساسه، ودبَّره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه وكافأه، فالدين في هذا الاستعمال يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو شأن الملوك في السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة»[1]. يقال الدين هنا بمعنى الإحاطة والمراقبة والضبط، فقد نقول إن فلاناً قد ‘دَانَ نفسه’ بمعنى أنه عَقَلَهَا وضبطها وتَحَكَّمَ فيها.
إن الأصل في الدين، هنا، القهر والطاعة، كأن نقول مثلاً: دِنتُهُ فَدَانَ لي؛ أي قهرته وأكرهته فأطاعني وأذعن لأمري. وهذه هي علاقة ‘الدين’ القائمة بين الإنسان والإله. ويتصل هذا بالقول المأثور ‘كما تدين تُدان’؛ أي كما تسلك وتتصرف ستجازى، فجزاء الفعل من صنف الفعل نفسه. إذن فالفعل من ‘الدين’، أي ‘دان’، يهم الإنسان والإله على حد سواء. يدين الأول عبادة وإيماناً، بينما يدين الثاني جزاء للأول وثواباً له. وهذا ما جعل من الإله ‘الديّان’ الذي يجازي ويحاسب، بل إنه ‘مالك يوم الدين’؛ أي يوم ‘الجزاء والحساب’، حيث يُدان الناس بما دانوا ديناً قيّماً؛ أي حساباً موزوناً ودقيقاً. والديّان هو الفعّال مِن ‘دان’ الناس؛ أي قهرهم على الطاعة[2]. وفي الدين تكون الطاعة بالإكراه والغصب، ثم تصير إلزاماً ذاتيّاً يُلْزِم به الإنسان نفسه لكونها ضرباً من التقديس.
يحيل هذا المعنى على ما يسميه إريك فروم بالدين التسلطي authoritarian الذي يحط فيه الإنسان من قدره، ويُذِل نفسه إزاء قوة عظمى؛ وذلك في مقابل الدين الآخر الإنساني humanistic الذي يمنح فيه الإلهُ السلطةَ للفرد لكي يبرز قدراته الخاصة ويحقق ذاته[3].
إذا كان الإله هو ‘الدَّيَّان’، فإن الإنسان هو ‘الدَّيِّن’ والمتدين. ونقول إن الإنسان قد دِينَ على إتيان فعل ما؛ أي صار ذلك الفعل دَيْدَنَهُ، وبات القيام به من باب التعود لديه. فالعاقل الكيّس هو من دَانَ نفسه؛ أي عقلها وكبح جماحها وأَذَلَّها. والأحمق من دان لها، فانصاع وأذعن وانبطح وبات ذليلاً لها.
أما المعنى الآخر عندما نقول: «’دان له’ أَرَدْنا أنه أطاعه، وخضع له. فالدين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة والورع، وكلمة ‘الدين لله’ يصح أن منها كلا المعنيين الحكم لله. أو الخضوع لله»[4]. وثمة ارتباط جلي بين المعنى الأول والمعنى الثاني؛ فَنُجْمِل هذا الالتقاء بالقول إن الدين بوصفه إكراهاً وإلزاماً، يستتبع الدين بوصفه إذعاناً وتسليماً؛ ومن ثم يمكن أن نخلص إلى «أن كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يُعظم أحدهما الآخر ويخضع له فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعاً وانقياداً، وإذا وُصف بها الطرف الثاني كانت أمراً وسلطاناً، وحُكماً وإلزاماً. وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يُعَبر عنها». وبهذا المعنى، فإن كلمة ‘دين’ ملازمة لمعنى الخضوع والانصياع والانقياد ومرادفة له؛ فهي تفيد، من جهة أولى، ضرورة الخضوع والإذعان، ومن جهة ثانية، تحيل على الالتزام الذي يبديه الفرد، وتَعَهُّده بالطاعة والامتثال، كما أنها تشير إلى المبدأ أو القاعدة أو القانون الذي يلتزم الفرد باحترامه.
والمعنى الثالث يتضح عندما نقول: «’دان بالشيء’ كان معناه أنه اتخذه ديناً ومذهباً؛ أي اعتقده أو اعتاده أو تَخَلَّقَ به. فالدين هنا يعني المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء، نظريّاً أو عمليّاً. والمذهب العملي لكل امرئ يُشَكِّلُ عادته وسيرته، كما يقال ‘هذا ديني وديدني’. والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه. ومن ذلك قولهم: ‘دَيَّنت الرجل’ أي وكلته إلى دينه ولم أعترض عليه فيما يراه سائغاً في اعتقاده». إن دين المرء هو ما اعتاده وما أَلِف السير على منواله، وما دأب عليه من سلوك وحال. فَــــ «الدين في اللغة العادة، والحال، والسيرة، والسياسة، والرأي، والحكم، والطاعة والجزاء»[5]. ونقول إن هذا دين فلانٍ وديدنه؛ أي ما صار له منهجاً وطريقاً يسلك على هديه. ومن هنا كان الدين قريباً جدّاً من معاني الشريعة والسنة[6] والنظام، وعلى كل ما يوجه حياة جماعة ما، ويرسم لها معالم وجودها في إطار علاقات الأفراد في ما بينهم[7]، وفي علاقتهم بعالم آخر مفارق، وقوة متعالية تُتَصَور أصلاً للحياة والوجود.
ونقول إن فلاناً يعيش على دين قومه ويتّبعهُ؛ ومعناه أنه وَفِيٌّ لإرث أسلافه وجماعته، ولا يخرج عمّا اعتادوه من عادات، وتعارفوا عليه من أعراف، وتقلّدوه من تقاليد. ومن هنا لمَّا نشير إلى أن فلاناً قد ‘دان’ فلاناً آخر؛ فمعناه أنه حمَلَه على ما يَكره، وأذلَّه وأرغمه على إتيان ما لم يكن ليأتيه بمحض إرادته ومشيئته.
من هذا المعنى الثالث، نجد التقاءً أيضاً بين المعاني جميعها؛ لأن كل ما يعتاده المرء ويتخذه مذهباً وعقيدة (حسب المعنى الثالث)، يمارس عليه سلطاناً وقهراً وإلزاماً (المعنى الأول)؛ فيُبدي الشخص، بعد ذلك، الطاعة والخضوع والانصياع (المعنى الثاني).
بناء على ما سبق، نجد أن فعل ‘دان’ هو الأصل في الدين، ويختلف باختلاف علاقة من ‘يدين’ بمن يسري عليه هذا الفعل؛ لذلك يقال: «دان الرجل إذا عزَّ، ودان إذا ذل، ودان إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا اعتاد خيراً أو شرّاً، ودان إذا أصابه الدّين، وهو داء […] ودِنتُهُ أَدِينُه دَيناً: سُستُهُ. ودِنتُهُ: مَلَكْتُه. ودُيّنتُهُ أي مُلّكْتُهُ. ودَيَّنْتُهُ القومَ: وليته سياستهم». فالمَدينُ هو العبد الذليل، وكل من يدين لغيره بدين ما. والمدينة هي الأَمَةُ المَمْلُوكة؛ لأنها مدينة لمن يملكها ويتحكم فيها. ونتحدث عن المدينة أيضاً لأن هناك من يدينها؛ أي يسوسها ويدبر شؤونها. وهي مدينة كذلك لأن ساكنيها قد تمدنوا، ودانوا على دين معين؛ أي اعتادوه وَغَدَا دينهم وديدنهم وسُنَّتهم. وكل فرد جديد فيها لا يكون ابناً للمدينة إلا إذا دانه أهلها فدان؛ أي أرغموه وأكرهوه فأطاع وأبدى اللين والقبول، ومن ثم اعتنق ما يدينون به. إن الدين هو تلك العادة التي تطوق أهل المدينة أو القبيلة، تَعْقِلُهُم وتحول دون انسلاخ أيٍّ منهم عن دينها، فتغلق جميع المنافذ التي قد يتسرب منها أي نور خارجي إلى قلوبهم وضمائرهم، فتتحول من مَدينة إلى مُدِينة تُدين بالخير من دان خيراً، وبالشر تدين من دان شرّاً، وهي الدَّيَّان هنا والمتحدث باسم الإله والرافض لدين غيره، بل ولكل دين خارج دينها، والمحافظ على سنّته. إن أساس المدينة يكمن في الدين؛ أي العادة والاعتياد والجمود والسكون والانغلاق والثبات. هذه هي الشروط اللازمة لكي يَدِينَ المدينةَ من دُيّنوا أمرها، بعيداً عن أي تأثير خارجي يمكن أن يُخرجها من حال السكينة التي تنعم فيها.
فأهل المدينة، إذن، هم من دِينوا على ما تدينُ به؛ بمعنى أُرغموا عليه فدانوا وأطاعوا كرها وغصباً. ليكون الدين هنا رمزاً للانغلاق على عقيدة وسنّة محددة، لا يحق لأبناء المدينة الخروج عنها. وهذا ما يقودنا إلى المعنى الشرعي للدين، والذي يطلق على الشرع والملة. ومن هنا يقال إن: «الدين هو وضع إلهي سائقٌ لذوي العقول باختيارهم إيّاه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل. وهذا يشتمل العقائد والأعمال، ويطلق على كل ملة»[8].
وهذا ما يجعل الدين على صلة وثيقة بالمقدس والتقديس، والذي هو نتيجة للخوف والإحساس بعدم القدرة على السيطرة على المصير والحياة. ومن ثم، فالإحساس بعدم الأمان يولد الشعور بالحاجة إلى وجود خالق[9]. هذا الخالق يسمى ديَّاناً؛ أي الحاكم القهار الذي يحتكم إليه الخلق؛ ومن هنا كان ديَّان الأمة قاضيها الذي يفصل بين الناس في ما علق من قضايا، ويسوس ما تشابك من أمور. وكان الدين هو الشعور بحضور الإله -الدَّيَّان- أو الشعور بالمقدس، مع ما يصاحب ذلك من خشية في حضرة قوة الإله اللامحدودة، مَلك الحياة والموت، وسر لا معقوليته وتجاوزه لكل تصور عقلي. إن هذا التقديس هو قلب كل دين[10]، والذي يشمل عموماً معاني الجزاء والعادة والعبادة والطاعة والذل والحساب والقهر والغلبة والاستعلاء والسلطان والملك والحكم والسيرة والتدبير والتوحيد والملة والورع والمعصية والإكراه… إلخ، كما أنه اسم لجميع ما يُتعبّد الله به. والدَّيَّان هو القهار والقاضي والحاكم والسائس والحاسب والمجازي الذي لا يُضَيّعُ عملاً، بل يجزي بالخير والشر[11].
من خلال هذا البحث الاشتقاقي واللغوي في مفهوم ‘الدين’ عربيّاً، وفي علاقته بموضوع كتابنا خصوصاً في الشق المتعلق بالتجربة الدينية عند برغسون، نلاحظ بالملموس أنه، رغم دلالاته المتعددة، إلا أن لها قاسماً مشتركاً، وهو أنها تشي جميعها بنوع من الشدة والصرامة والضبط… إلخ، تُسْتَمَد من علاقة اتصال عمودية؛ من جانب واحد ومن فوق إلى تحت، كما تشير إلى ذلك عبارة ‘تنزيل’[12] كما عبّر عن ذلك ألان (إميل شارتيي) الذي ربط الدين بكل ما هو فوقي وعلوي في السماء، لدرجة أن من يصلي يرفع أكفه إلى الأعلى متضرعاً للإله الذي يتخيله في السماء[13]. تحيل جميع هذه الدلالات على ‘الخضوع والطاعة’ و’القهر والإكراه’ و’العادة والاعتياد’، ثم ‘السياسة والحكم والتحكم’. إنها معاني تلامس بُعداً واحداً من أبعاد التجربة الدينية سِمته السكون والثبات والانغلاق، يُقيّد الإنسان ويعقله أكثر مما يفتح له آفاق الحياة والوجود الرحبة. لذلك، نقول إنه دين ‘عاقل’ يعقل من يدين به.
من هنا سنخوض في الدلالة اللغوية، غير العربية، لكلمة دين، لنرى علاقتها بأبعاد التجربة الدينية الأخرى، ونلامس أوجه التقائها بالدلالة العربية وأوجه اختلافها عنها، ثم مدى تعبيرها عن معاني التجربة الدينية في المتن البرغسوني.
1.2. في اللسان الغربي:
يربط الكثير من الفلاسفة والباحثين ‘التجربة الدينية’، والدين عموماً، بالأصل الاشتقاقي لكلمة ‘دين’ religion الذي يعود إلى الفعل اللاتيني religare الذي يعني الربط وإعادة الربط. والنتيجة هي أن التجربة الدينية تفيد تلك الرابطة بين الإنسان وباقي الناس، وبينه وبين الإله المُعتقَدِ فيه، بل ويذهب البعض إلى حصر هذه الرابطة في الإله فقط، وأن كل مجتمع لا بد وأن تكون له أواصر مع إله مفارق؛ وبالتالي لا يمكنه تجاوز الدين أو الوجود خارج ما هو ديني[14]. لكنَّ هذا الطرحَ اللغويَّ الأصل ينأى بالدين عن المعنى، ويُسقطه في المجرد والصوري والشكلي، ليغدو الدين هو فقط ما يَجمع الناس بشكل أفقي واجتماعي ومحايث، أصله في وحدة الإله المُعْتَقَد فيه وتوحيده، والذي يَكون منبعَ الإلزام الاجتماعي نفسه، إلا أنه طَرْحٌ لا يفيد أن الدين لا يتأسس على المعنى le sens، والذي يعني وجود شيء آخر غير هذا العالم، يمكن أن يكون غايته أو معناه[15]. وهذا ما عبَّر عنه فتغنشتاين بالقول إن الاعتقاد في الإله معناه أن ترى أن لهذه الحياة معنى.
يرى لوك فيري أن الدين، بما هو ضامن وحافظ للمعنى، لا يمكن تعويضه[16]. ما يعني أن القطع النهائي مع الإيمان، والتجرد من الاعتقاد، والتخلص من فكرة الإله، هي الأمور التي تمثل أساس العدمية والفراغ واللامعنى. في هذا المضمار بالذات، يؤكد هايدغر أن فقدان العالم الميتافيزيقي وفوق الحسي لقدرته على الإلزام، والتسليم بموت الإله، يُجرّدان الإنسان من أي سند يدعمه ويتمسك به، فيفقد الموجه الذي يرشده ويقوده[17]. والنتيجة هي الدخول في بحرٍ من التيه والضلال والفراغ.
إن ما ينبغي أن يوحد الناس ويجمع بينهم ليس الإله الواحد؛ لأنه ليس واحداً ولا يمكنه أن يكون كذلك. فكل فرد يتصوره على نحوه الخاص، وليس كل إنسان يسلم بوجوده. لكن ما يمكن أن يجمع بينهم ويضفي الكثير من المعنى على هذا الرابط، هو تجربة الإيمان بوصفها تجربة روحية وروحانية تؤمن بالمطلق في أرقى تجلياته وأعمّها، وتؤمن، أكثر من ذلك، بالإنسان والإنسانية.
يرتبط الدين بالمعنى من خلال ما يخلق من وحدة أو اتحاد la communion، ويُعرّفه سبونفيل بأنه المشاركة والتشارك دون تجزيء، أو لنقل إنه تقاسم دون تقسيم[18] partager sans diviser. إن هذه الوحدة هي ما يصنع المجتمع وليس العكس؛ لأن مجرد وجود جماعة لا يعني بالضرورة وجود وحدة واتحاد، وإنما الاتحاد هو ما يخلق معنى الجماعة، وأصل هذا الاتحاد ليس الدين فقط، بل توجد أمور أخرى تتجاوز الديني إلى ما هو اجتماعي وثقافي ووجودي، وغيرها من الأبعاد التي تحكم الوجود الإنساني المشترك.
يعني الدين أيضاً، بالنسبة إلى شيشرون Cicéron الذي يربطه بفعل relgere اللاتيني، معنى القراءة الثانية أو إعادة القراءة relire، وتجديد الرؤية وإعادتها بكل عناية ودقة ‘revoir avec soin’[19]. وفي الإعادة محاولة أخرى للتثبيت والتثبت من الأواصر التي تجمع الإنسان بالإله وبغيره من الناس، ليكون هو ‘المراعاة الدقيقة’، و’شدة الجمع والتوحيد’، وكذا ‘شدة التقيد والتبعية’[20]. ومن خلال هذه العناية والتدقيق، يتضح لنا التمييز الذي أقامه شيشرون بين الدين lareligio والخرافة la superstitio[21].
يرى سبونفيل أن الأصل الاشتقاقي الأنسب لكلمة ‘دين’ ليس فعل religare الذي قال به لاكتانس Lactance ومن حدا حدوه في ذلك، وإنما religere الذي قال به شيشرون، والذي يعني recueillir وrelire، ومعناه الجمع واللم. والدين هنا يفيد، قبل القراءة الثانية، جَمْعَ وتجميع ما يُقرَأ من أساطير ونصوص وتراث. ويعتبر هذا المعنى أقرب إلى كلمة ‘توراة’ في التراث العِبري اليهودي، والتي تعني القانون والتعليم، كما أنه قريب أيضاً من كلمة ‘Bible’ أي ‘Biblia’ في اليونانية، وتحيل على معنى ‘كتاب’ أو ‘كتب’، وهو المعنى الذي يلتقي أيضاً مع ‘القراءة’ و’الترتيل’ على نحو ما نجد في ‘القرآن’ وفي التراث العربي والإسلامي[22]. والقرآن من القراءة؛ أي تَتَبُّع الكلام المكتوب واستجلاء معانيه. ويفيد أيضاً معنى التبليغ. والقُرءُ يعني الجمع، والقرآن سمي قرآنا لأنه مجموع. وكذلك القوانين والتعاليم فهي مجموعة لتُقرأ، وتضم التقاليد والقواعد والتراث، وكل ما يصدر بوحي من أصل أول، لتكون موضع احترام وتقدير واستدماج، مع ما يجمع بين الناس من روابط ووشائج اجتماعية. بهذا المعنى، يكون الدين أقرب إلى ما هو اجتماعي منه إلى ما هو فلسفي، ما يجعل منه حبّاً لِــــ’خطاب’، أو ‘قانون’، أو ‘كتاب’؛ أي حبّاً لِــــ ‘لوغوس’[23].
يبدو أن الأصل الاشتقاقي لكلمة ‘دين’ في اللسان الغربي، يفيد عموماً معنيين اثنين: علاقة الاتصال والتبعية مع ما هو إلهي، ثم هاجس تلك الطبيعة العليا التي تتحدد بوصفها هي الإله[24] الذي ليس مجرد فكرة في خَلَد المتدين، وإنما هو واسطة عقد كل تجربة دينية، والأساس القوي الذي تقوم عليه فكرة ‘الربط’ و’الجمع’، كما رأينا في الأصل اللاتيني لكلمة ‘دين’، وكذا فكرة الخضوع والطاعة والتدبير…إلخ، كما لامسنا ذلك في اللسان العربي[25]. كما أنه نظام فردي من المشاعر والاعتقادات والأفعال المألوفة، التي يكون موضوعها الإله[26] الذي به يصير الدين تجربة قوامها الخضوع والإذعان والذل والطاعة والالتزام، وهو، كما حدده شلايرماخر؛ ذلك الشعور الذي ينتاب الإنسان بتبعيته المطلقة وبعجزه وضعفه التامّين. إن الدين يعني تصاغر الروح وذلها وهوانها[27]. والتديُّن هو أن يدين المرء بما يعتقد فيه؛ فيوجهه ويُسيِّر سلوكه. يتصل الدين بالإيمان، وبالاعتقاد في أمور وقوى فوق طبيعية تشكل إجابات حول العديد من الأسئلة التي تؤرق بال الإنسان، والمتمحورة أساساً حول علاقته بالكون والوجود.
بهذا المعنى، فالدين ليس مجرد ممارسات وطقوس اجتماعية فقط، وإنما لا بد لذلك كله أن يكون مُحَرَّكاً بقوة الاعتقاد والإيمان؛ أي إن الفردي والداخلي والنفسي يقود الاجتماعي والخارجي والظاهر، ويتحكم فيه ويوجهه. وسمة هذا الداخلي الأساس هي اللاعقلانية والغموض وعدم القابلية للتفسير؛ فهو قائم على الإيمان بمبدأ أسمى لا يمكن التثبت منه، لكن يمكن حدسه والتوصل إليه على نحو طبيعي، يَكُون معه الدينُ نسقاً من المعتقدات التي تفسر أصل الطبيعة والعالم والنفس. وبهذا المعنى، يتم التوصل إلى فكرة الإله على نحو طبيعي كما توصل إليها ‘حي بن يقظان’، ليكون دينه ديناً طبيعيّاً، ليس في حاجة إلى أي وحي خارجي، بل حسبه الاعتماد على وحي داخلي هو العقل[28] الذي قاده إلى فكرة الإله، والذي سيقوده أيضاً إلى فكرة ‘الغير’ بمجرد أن يلتقي بأي ‘أنا’ آخر. من هنا سيتوصل ‘حي بن يقظان’ إلى أن الدين ليس فقط تلك الرابطة العمودية بينه وبين الإله، وإنما هناك علاقة أخرى أفقية تجمعه ببقية الناس، تُنَظّم صِلاته بهم، وتدخله في منظومة من الاعتقادات والممارسات المشتركة معهم[29].
يبدو جليّاً أن مفهوم ‘الدين’ في اللسان الغربي قريب من الدلالة اللغوية العربية، من خلال ما عرضناه من مختلف المعاني التي تحيل عليها مفردة religion. فإذا كان جوهر الدين هنا هو الربط وإعادة الربط، على مستوى العلاقات بين الإنسان وغيره من الناس، وبينه وبين الإله، فإن الدين في معناه العربي يُفَصّل في أنواع هذه العلاقات، وفي مراتبها ودرجاتها، ويميز بين علاقة الخضوع وعلاقة الإكراه وعلاقة التسيير والتدبير والسياسة، ليبقى الفرق هو ما أضافه المعنى الآخر الذي تحدث عنه شيشرون؛ أي religere، والذي يحيل على القراءة وعلى القراءة الثانية؛ أي ربط الدين بالنصوص والتدقيق فيها والتعمق في معانيها، لكي يتم النأي بالدين عن مجال الخرافة والدجل.
وفي علاقة ذلك بموضوع كتابنا، نسجل الملاحظة ذاتها حول عجز الدلالة اللغوية الغربية لمفهوم ‘الدين’ عن الإحاطة بمعنى التجربة الدينية في شتى أبعادها الأنطولوجية والحيوية والروحانية، واقتصارها فقط -كما هو شأن الدلالة العربية- على الجانب الاجتماعي الذي يؤسس لنمط من التنظيم السياسي قائم على الوحدة والتوحيد، وعلى الجمع والمنع ولمّ شملِ الأفراد تحت يافطة دين واحد.
وفي الأخير نخلص إلى أن الدلالات اللغوية والاشتقاقية لمفهوم ‘دين’ لا تسعفنا في الإحاطة التامة بمعنى التجربة الدينية بوصفها تجربة معيشة؛ يوجد فيها المرء ويحيا ويكون وفق نمط متجدد ومتطور وخلاق، لا ينحصر في عادات المجتمع وتقاليده المنغلقة، وإنما يتطلع إلى معانقة الإنسانية في أبهى تجلياتها، والارتماء في أحضان المطلق المنفلت من كل القيود التي لامسناها في الدين مفهوميّاً. ومن ثم نضيف أن ‘مفهوم’ الدين لغويّاً مُقَيَّدٌ بمنطقٍ عقليٍّ صارمٍ وجامدٍ، لا يفيد معاني ‘التجربة الدينية’ بأبعادها الحدسية المعيشة.
إذن، إذا كان التعريف، منطقيّاً ولغويّاً، يستدعي الجمع والمنع واللم والضم، فإننا نرى أن مفهوم ‘الدين’ و’التجربة الدينية’ في حلّ من ذلك كله؛ إذ لا مناص من التركيز على ‘التجربة’ بما هي ‘فعل’ و’ممارسة’ و’نشاط’ و’وجود’، والأهم من ذلك أنها ‘صيرورة’ و’معيش’ لا يمكن حصره في أي تعريف. وبوصفها كذلك، فإن هذا يقودنا إلى ‘تنوع’ في هذه التجربة الدينية، كما قال بذلك وليام جيمس، الشيء الذي سيعبِّر عنه برغسون بالقول إن هناك ‘منبعين’ للدين، كما هو شأن الأخلاق. فكيف يعرّف برغسون الدين من منظوره الفلسفي؟
1.3. مفهوم ‘الدين’ عند برغسون:
سنكتفي في هذا المقام بالتعريف الذي قدمه برغسون للدين، وتحليله له في مستوى أول، دون أن نخوض في أبرز تمفصلات المشكلة الدينية أو مشكلة الدين لديه، وهو ما سنرجئه إلى حين خوضنا في ‘التجربة الدينية’، وفي كل القضايا المتعلقة بها.
في إطار كلامه عن مناهج التفلسف الممكنة، يتحدث برغسون في كتابه ‘الفكر والمتحرك’ عن ‘منهج روحاني’ واصفاً إياه بأنه لا يأخذ في الحسبان فقط العناصر المكونة لكل ظاهرة؛ وإنما يركز على نظامها وعلى التآلف الحاصل بين عناصرها، وكذلك الاتجاه المشترك التي تسير فيه. إنه منهجٌ لا يُفَسِّر أبداً الحي بواسطة الميت، بل إنه، وهو يرى الحياة في كل مكان، ومن خلال الطموح والتوقان إلى حياة أرقى وأسمى، يقوم بتحديد تلك العناصر الأولية. إن هذا المنهج لا يُرجِعُ الأسمى إلى الأدنى منه، وإنما يقوم بعكس ذلك تماماً، فيَرُدُّ الأدنى إلى الأسمى والأعلى؛ هذا ما سماه بالمذهب الروحي le spiritualisme[30]. وبهذا يمكننا القول إن تصور برغسون للدين، وكذا المنهج الذي اعتمده، يمتحان من معين هذا التوجه؛ إذ يتضح ذلك من خلال التسلسل المنهجي الذي تَوَسَّله والذي ينطلق، في مجمله، مما هو سيكولوجي إلى ما هو أنطولوجي، وصولاً إلى أسمى مراتب الوجود الإنساني والروحي. ويوازي هذا أيضاً الاتجاه نفسه على مستوى تصوره للدين من الناحية الفلسفية المعرفية، ويكمن في الانتقال من الدين الساكن والعقلي والخرافي، إلى الدين الحركي فوق العقلي والحدسي. إنه التعارض ذاته الذي سبق أن توصل إليه بين الحركة ومواضعها الثابتة، وبين الزمان ولحظاته.
بهذا المعنى، فإن مفهوم ‘الدين’ كما فصَّل القول فيه برغسون بين تضاعيف كتابه ‘منبعا الأخلاق والدين’ ينخرط ضمن الاتجاه العام لفلسفته والمتعلق بالثنائيات المفاهيمية. وعطفاً على ما تناوله في أعماله السابقة، سيتخذ هذا المفهوم أيضاً بُعداً ثنائيّاً ومزدوجاً، قوامه ‘المنغلق’ و’المنفتح’، أو لنقل ‘الساكن’ و’الحركي’، ويجد أساسه في ثنائية ‘العقل’ و’الحدس’ -العقل واللاعقل- موضوع القسم الأول من هذا الكتاب.
يُعَرِّفُ برغسون ‘الدين’ تعريفين اثنين؛ فيعتبره في المقام الأول: «رد فعل دفاعي تتصدّى به الطبيعة لقوة العقل الهدامة»[31]. وفي مقام آخر يرى أنه: «رد فعل دفاعي للطبيعة ضد تصور العقل لاستحالة اجتناب الموت»[32].
يتبدى لنا من خلال هذين التعريفين الدور المركزي للعقل في نشوء الشعور الديني لدى الإنسان؛ فهو مصدر للاختلال وعدم التوازن من جهتين أو باعتبارين اثنين؛ إنه منبع الحرية البشرية التي تطال أي شيء، خاصة الحرية اللامحدودة في التفكير، وما يصاحبها من تَعَمُّقٍ في جملة من القضايا التي لا يتأمل فيها إلا الكائن الناطق. كما أنه علة الشك والخطر وسلسة من التصورات التي تنأى بالإنسان بعيداً عن الارتباط بالحياة وإرادتها؛ إذ إن ركونه إلى العقل يجعله يشك في هذه الحياة وفي مدى استمراريتها، وفي مصيره بعد أن تفنى ما دام الإنسان محكوماً بيقين الموت الذي لا مندوحة عنه.
إن ما يوجد في العقل ويؤدي إلى ابتداع الدين والوهم والخرافة يقع تحت ما يشكّلُه من خطر وتهديد للحياة، ليَحُول دون استمرارها بشكل طبيعي؛ فالأنانية العقلية تهدد الحياة الجماعية والاجتماعية، وفكرة الموت تُفقِدُ الإنسانَ الثقة[33] في الحياة والوجود. لكن رغم أهمية العقل في نشأة الدين واعتماده في تعريفه، يرى فرانسوا أرنو F. Arnaud أن الأمر يستدعي، بالنسبة إلى برغسون، عنصراً آخر غير العقل؛ وهو السَّوْرَة الحيوية.
إلى جانب قدرات العقل البشري على التركيب والتحليل والاستنباط؛ له قدرة أخرى تُمَكِّنه من التخريف والتخييل، وهي المسؤولة عما يبدعه من مجموع التمثلات والتصورات اللاعقلية والوهمية للدين الذي يصير رد فعل من الطبيعة ضد العقل، وهو رد فعل نابع من هذه الملكة التخييلية تحت ضغط السَّوْرَة الحيوية التي تريد الاستمرار في وثوبها وأُفوزها؛ الشيء الذي يجعل تَمَظْهُر هذه التمثلات يأتي في قالب مناقض للعقل. من هنا يمكن أن نستشف أن للدين طبيعة لاعقلية، وفي هذه اللاعقلانية تتجلى وظيفته الحيوية والوجودية المتمثلة في إخفاء الحقيقة وخلق الوهم، وهي الوظيفة التي يقول بها كل من لوكريس ونيتشه كذلك[34].
الدين إذن، عند برغسون، هو تلك المقاومة أو رد الفعل الذي يقوم به الإنسان تجاه العقل والعزلة والخوف من الخوف وخشية الفشل ثم الخوف من الموت[35]؛ أي إنه ليس فعلاً يتجه إليه الإنسان بإرادته، وإنما هو رَدُّ فِعلٍ يُبْدِيه مُكرهاً ومقهوراً أمام عجزه وقلة حيلته وضعفه.
يُثيرُ تعريفُ برغسون للدين إشكالين اثنين؛ يتصل الأول بالعقل وأنانيته وبدوره الهدام والمثبط للعزائم، والثاني يَهُمُّ يقينَ الموت الذي يغزو إرادة الحياة لدى الإنسان؛ وذلك بواسطة العقل أيضاً. وينبري فيلسوف ‘التطور الخلاق’ لهذا الإشكال بتقسيمه الدين، على التوالي، إلى دين ساكن statique ودين حركي dynamique؛ فيضع إزاء التصور العقلي الأول تصوراً آخر نابعاً هو أيضاً من الفكر البشري، وهذا التصور يتمثل في الخيالات والأوهام وأنماط التفكير الأسطورية وليدة الوظيفة التخريفية la fonction fabulatrice التي تجعل الكائن الناطق يربط وجوده بقوى غيبية ماورائية، ويستعيد رغبته في الحياة وإقباله عليها بعد أن تَكَوَّنَت لديه فكرة الخلود وموت الجسم وبقاء النفس في الحياة الأخرى. أما الوجه الثاني من المشكل، فلا يَحُلُّه بأن يضع تصوراً خياليّاً إزاء تصور عقلي، بل سيتجاوز العقل إلى ما وراءه وما فوقه، ليتصل بمنبع الحياة الأول؛ أي بالسَّوْرَة الحيوية أو بالإله، وهذا هو التصوف. تجمع التجربة الصوفية، من منظور فيلسوف الديمومة، بين التأملي وَالوَجْدي وما هو فعلي وعملي؛ الشيء الذي «يزود الإنسان ليس فقط بالأمن، بل بالسكينة. ليس بالخيال فقط، وإنما بالتجربة»[36].
يتمثل أساس الدين، بالنسبة إلى برغسون، في مُكوناته العملية والحياتية والوجودية، وحتى السيكولوجية والاجتماعية؛ لذلك فالدين عنده ليس مجرد مفاهيم وتصورات، وهو ما يقتضي، قبل الخوض فيه، استحضار ما يترتب عنه من آثار على حياة الإنسان الخائض الوحيد للتجربة الدينية. من هنا يمكن أن نخلص إلى أن مفهوم برغسون للدين يتحدد -من ضمن ما يتحدد به- بنتائجه أو وظيفته التي يواجه بها تلك الخاصة بالعقل، والتي تسير في مسارٍ مناقضٍ لسَوْرَة الحياة، أو لنقل مع فريدريك فورمس إنه مجموع التمثلات الفردية والمؤسسات الاجتماعية التي تضعها الحياة في تعارض مع آثار العقل البشري ونتائجه[37]. يتم تجاوز هذه النتائج من خلال قوة محركة هي ملكة الإنسان التخريفية والتخييلية التي تعمل على تلطيف وتليين ما جعله العقل فظّاً وجافّاً. إن العقل عدو الحياة ونقيض الروح والحياة الروحية. لذلك، فالدين يتخذ شكل ‘حاجة ميتافيزيقية وروحية’ ليستمر الإنسان في الحياة، وهذه حدود الدين الطبيعي والساكن. وقد يتعدّى الأمر ذلك إلى حياة روحانية وصوفية وإنسانية كونية؛ فيبلغ بعضٌ من صفوة الناس مرتبة الدين الحركي المنفتح، وهو دين المحبة والعشق حيث تستحيل التجربة الدينية إلى تجربة صوفية وروحية، أو لنقل إن التجربة الصوفية تقطع مع الدين الساكن الذي يشكل امتزاجُها به تركيبةً ثنائية هي ‘الدين الحركي المنفتح’ المُشتَرِك مع ‘الدين’ في بُعده الديني الاجتماعي الرامي إلى الحفاظ على البقاء والاستقرار، كما ينهل من التصوف انفتاحه وروحانيته.
لا شك أن مفهوم ‘الدين’ عند برغسون، في علاقته بمفهوم الدين عموماً، لغويّاً وفلسفيّاً، يثير العديد من القضايا والإشكالات الدقيقة والمهمة، سنجملها في إشكالية رئيسة تهم علاقة الدين بالعقل، ثم باللاعقل في بعديه اللذين أشرنا إليهما في القسم الأول من هذا الكتاب (ما دون العقل وما فوق العقل). ومن هذه العلاقة المركبة التي تحيل على ثنائية ‘المنغلق’ و’المنفتح’ تَبْرُز لنا جملة من القضايا والأسئلة، سنخوض فيها بناء على تصورنا للإشكال العام لهذا الكتاب، مع الأخذ بعين الاعتبار موقعها في السياق العام لفلسفة برغسون.
2. التجربة الدينية بين الانغلاق والانفتاح:
بناءً على النتائج التي توصلنا إليها، في ما يخص دلالات مفهوم ‘الدين’ اللغوية، يجدر بنا الآن أن نتساءل: هل تم التنظير والتقعيد للدين لغويّاً في ضوء الكيف الذي يعيش به الإنسانُ الدينَ ويَخبُره به في حياته؟ أو بتعبير آخر، هل مفهوم ‘الدين’ هو عينه معنى ‘الدين’ بوصفه تجربة حياتية معيشة؟ ثم كيف نبع هذا الدين أنطولوجياً وحياتيّاً قبل أن يتم حصره في مفهومه المُتواضَع عليه؟ وهل الدين محصور في ما تُصوره لنا اللغة، أم إن التجارب الدينية غنية ومتعددة بما يتجاوز مُكنة التعبير اللغويّ؟
تقودنا هذه الأسئلة إلى البحث في إشكالين أساسين في كتاب برغسون حول الأخلاق والدين، يظهران من عنوانه؛ وبالضبط من كلمة ‘منبعا’[38] les deux sources. إنها تفيد، أولاً، ثنائية على مستوى أصل التجربة الدينية، كما تعني أيضاً، وفق ما جاء في متن الكتاب، أن هذين المنبعين سيكشفان عن تجربتين دينيتين مختلفتين، كما هو الشأن في الأخلاق.
إن ثنائية المنبع هذه هي ما عبّرنا عنه في عنوان كتابنا هذا بِــــ ‘العقل’ و’اللاعقل’، تلك الثنائية التي تنطبق على نوعي التجربة الدينية الحاضرين في متن برغسون؛ ومن هنا نخلُصُ إلى أن للدين منبعاً عقليّاً وآخر لاعقلي. وبالتالي، وجود تجربة دينية عقلية وثانية لاعقلية، وهو ما سنوضحه أكثر بالعودة إلى المفاهيم والتصورات البرغسونية العديدة التي تنضوي جميعها تحت ثنائية أساس ألهمت ‘محمد عزيز الحبابي’، وشَكَّلت أرضية خصبة لكتابه ‘من المنغلق إلى المنفتح’[39]. يحيل المنغلق على العقل والغريزة والمجتمع والسكون، في مقابل المنفتح الذي يجسده الحدس والمجتمع الكوني المفتوح والدينامية والحركية[40].
2.1. منبعا الدين:
استهل برغسون كتابه بالحديث عن الأخلاق ثم الدين، لكننا في هذا المقام سنقتصر على موضوع كتابنا الأساس والمتعلق بالدين والتجربة الدينية، ولن نخوض في التجربة الأخلاقية على الأقل في هذا المستوى، وسنرجئ ذلك إلى القسم الأخير الذي سنتطرق فيه إلى ترابطهما الضمني في توليفة روحية أنطولوجية لا تكتمل إلا بالجمع بين الأخلاقي والديني والصوفي. لذلك، سنركز هنا على منبعي الدين فقط.
2.1.1. الدين بوصفه إلزاماً والتزاماً اجتماعيين:
من خلال الدلالتين اللغويتين لمفهوم ‘الدين’، في اللسانين العربي والغربي، يمكن أن نتحدث عن نقطة محورية تلتقيان حولها؛ فالربط وإعادة الربط مع الإله وباقي الناس، يستدعيان بالضرورة التزاماً تجاه هذه الأطراف. إن كل إلزام غير مُلزِم لا يُعَوَّل عليه هنا، لذلك فإنه في حاجة إلى القوة والسلطة لكي نبلغ الخضوع والانصياع، هنا يتجلى معنى ‘دِنْتُه فَدَان لي’. وهنا نتحدث عن أول منبع للدين يشير إليه برغسون؛ ذلك المنبع الاجتماعي الجماعي القائم على ما كان يسميه دوركايم ‘القهر’ أو ‘الإكراه’ الاجتماعي، ونجد أن كل الأديان تتفق على هذا المنبع-المبدأ، ولعل قصة آدم في الديانات التوحيدية أبرز دليل على ذلك.
تحتل ذكرى الفاكهة المحرمة، بقصتها المشهورة في مختلف الأديان والعقائد، مكانة قوية في ذاكرة الإنسان وتراثه الثقافي والفكري؛ نظراً لِبُعْدِها الرمزي الغنيّ بالإشارات والرموز والدلالات المثيرة والمؤثرة. فمع قصة هذه الفاكهة بزغت الإرهاصات الأولى لمعاني التحريم والمنع والحظر التي هي أساس كل شعور ديني. ولا مرية أن يكون لذلك تأثير قوي على حياة الإنسان الأخلاقية والعلائقية، يقول برغسون: «كيف كان لطفولتنا أن تكون لو أننا قد تُرِكنا نفعل ما نريد! كنا سنطير من لذّات إلى لذّات أخرى. إلا أن حاجزاً غير مرئيٍّ وغير ملموسٍ كان ينبثق أمامنا؛ وهو المنع»[41]. لولا هذا السد المنيع، لظل الإنسان ينتقل من رغبة إلى أخرى، دون توقف أو تراجع، إلا أن سلطة القهر والزجر تلك تجعله يضفي على رغباته وملذاته شيئاً من التقنين والتنظيم وكبحٍ للجماح، بما يعكس طبيعة الدين الزجرية.
لم يكن لهذا المنع الذي وعاه الإنسان منذ بداياته الأولى أيُّ تَجَسُّدٍ مادي، وإنما كان سُلطةً رمزية ومعنوية كتلك التي يعترف بها الطفل لوالده، والتلميذ لمعلمه، والمريد لشيخه. وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم كيف رَبَطَ سيغموند فرويد نشأة العقيدة الدينية والألوهية بالأبوة أو الوالدية، جاعلاً من عقدة أوديب البداية الأولى لكل من الدين والأخلاق والمجتمع والفن[42]. وثمة تَجَلٍّ آخر لهذه السلطة أساسُه المكانة أو الحظوة التي ينالها شخصٌ ما داخل جماعة معينة، نظير تميزه بالقوة أو الشجاعة أو الكاريزما. إن الإنسان هنا يطيع ويخضع لسلطان هؤلاء جميعاً دون أن يفكّر في سرّ هذا الخضوع ومسوّغاته؛ فقد درَجَ على احترامهم وإبداء الكثير من التقدير والطاعة لهم بتعلَّة سُلطتهم التي لا تتعلق بذواتهم فقط، بل يوجد حضورٌ ومنزلة ووَقْعٌ ما كان ليُلازم غيرَهم. فهناك شعور بقوة باطنية تقبع خلفهم، كما لو أن طاعتنا تَكُونُ لتلك القوة أكثر مما هي لشخصهم؛ فما هم إلا رموز يمثلونها ويَنُوبُون عنها. إن هذه القوة هي المجتمع، وقد تُمَثّل الدين، بل إنها كذلك حقّاً.
تتعدد مصادر الإلزام والواجب داخل كل مجتمع، فثمة الديني والاجتماعي والأخلاقي والقانوني وغيرها؛ إذ يُقَدِّمُ القانونُ الأخلاقيُّ نفسه، حسب كانط، على شكل مَنعٍ[43] يخطر على الأشخاص الذين تساورهم الرغبة في بعض الانفلاتات، وقد ينزاحوا عن طريق الأخلاق والقيم؛ فتصدر عنهم أفعال لاأخلاقية، ثم هناك ما هو عُرفي متعلّق بالعادات والأعراف، بل إن القوانين نفسها ليست إلا مجموعة من العادات التي أخذت صبغة الإلزام نظراً لما ثبت لها من مصلحة وفائدة، ليَتِمَّ التواضع على سَنّها وتثبيتها. فالعادة كُلَّما طالت وترسخت، صارت مُلزِمة وضرورية، وبات المجتمع ينتظر تَشَبُّع أفراده بها. إن المجتمع مُزَوَّدٌ بما يسميه مين دو بيران ‘الفاهمة الجماعية’ المختلفة عن تلك التي لدى الأفراد، ما يجعلهم لا يمثلون أي شيء؛ لأن المجتمع وحده موجود[44]. وكل فعل أو عمل أو سلوك ينتظره المجتمع من أعضائه، فإنه، على حد تعبير برغسون، سيتسم بميسم الدين.
لذلك، نجد أن الأخلاق والقيم التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة، قد أخذت طابعها الإلزامي بمباركة من المجتمع الذي أضفى عليه طابع التقديس، وصار الدين يُحرّم الخروج عنها؛ الشيء الذي صَيَّرَه مُشذِّباً للسلوك ومُهَذّباً للأفعال. لقد كان بمثابة رد فعل دفاعي، ومقاومة لمقاومة العقل وتمرده، فكانت الأخلاق قديماً هي والدين يعنيان الشيء نفسه، ويدوران في فلك ‘الاحترام’ الذي سيُطَعَّم بالكثير من الترهيب والخوف والتخويف، ليصير تقديساً. فمن يَقُل احتراماً، فإنه يتحدث عن الدين[45]. وما من دين أفضل من احترام الإنسان والإنسانية.
يلعب التحريم دوراً محوريّاً في الدين؛ إذ إن كل النواهي والمحظورات التي يخضع لها الإنسان إزاء شيءٍ أو فعلٍ ما تجعله يقدسها ويحيطها بهالة من التعظيم والإجلال. وهذا عملٌ من أعمال الوظيفة التخريفية. يجمع التحريم بين قوة دفعٍ ومنع مادية تطال الأفعال والسلوكيات، ونهيٍ روحي يَهُمُّ باطن الشخص ومشاعره الداخلية. وبين ما هو داخلي وخارجي تتشكل هالة كبيرة من القيود التي تُكَبّل النفس البشرية وتُطْبِق السيطرة عليها. فكانت تلك أولى بوادر انغلاق النفس وتَشَبُّعِها بقيم منغلقة وساكنة في إطارِ دينٍ يُسميه ألان (إميل شارتيي) ‘دين النظام’ و’الأمر’. إنه دينٌ آمِرٌ وناهٍ؛ لأن النظام أو الأمر يحتوي على نوع من الدين، بل ربما هو الدين كلُّه[46]. فمن يتحدث عن النظام لا شك أنه يعني التحكم وإصدار الأوامر بِسَنّ أشياء ومنعِ أخرى.
من أهم ما خَلُصَ إليه برغسون في كتابه عن منبعي الأخلاق والدين، أن ميَّز بين المنغلق والمنفتح، وبين الساكن والحركي؛ وذلك على عدة مستويات أو مجالات، كالدين والأخلاق والمجتمع والنفس. يؤمن الإنسان داخل المجتمع المغلق بقيم القبيلة والعشيرة، ويكون على استعداد دائمٍ للحرب ومواجهة أعدائه الذين ليسوا إلا أولئك الأجانب والغرباء عن مجتمعه، والفرد المواطن هنا يكون نموذجاً للمقاتل المحارب في جيش، وليس إنساناً يعيش حياة سلمية وسط مجموعة من الأفراد في عالم واسع، وهذا النموذج هو الذي يصور لنا المجتمع البشري البدائي الأول.
يتميز المجتمع المغلق أيضاً بانتماء أفراده إلى ‘مسار العقل’ الذي يمثل الاتجاه المادي والجامد ضمن اتجاهات تطور الحياة. إنه مسار فَرَضَ على الناس أن يعيشوا في شكل جماعات مُنظمة تنظيماً سياسيّاً واجتماعيّاً، الأمر الذي أَخْضَعَهُم لجملة من الإلزامات؛ منها الاجتماعي والأخلاقي والقانوني والديني. وكلما اتسع المجتمع وانفتح، اتسع معه الإلزام أيضاً. وحتى يتمكن المجتمع من مواجهة تدابير العقل المخاتلة، لجأ إلى الدين واحتمى بسلطة التخريف، فكان ديناً ساكناً يُزَكّي الإلزام بأنواعه والضغط الممارس على الأفراد بما هو قوام هذا النوع من المجتمع المغلق.
يتخذ الانفعال الديني هنا شكل تحايل اجتماعي، أو لنقل إنه تمويهٌ يتوسله خيال الإنسان وملكته التخريفية لإلجام نزوعه الفردية وكبح ميوله الذاتية في مقابل الإعلاء من مكانة مصالح الكل وما يخدم بقاء النوع وحياة أفراده مجتمعين دون السقوط في مطب الأنانية. إن الدين بهذا المعنى، نابع من حاجة اجتماعية تتمثل في ضرورة الحفاظ على النوع أولاً، وضمان تلاحم أفراده ثانياً، فكان الوسيلة لانصهار ذات الفرد داخل ذات الجماعة، ليخرج من الأنانية المترتبة عن العقل، وأيضاً من العزلة نتيجة التفكير في الموت، ولهذا سميّ ديناً اجتماعيّاً وساكناً.
لقد كان لوصفِ برغسون الدين بالساكن علاقة قوية بطبيعة هذا الدين ووظيفته. فإذا كان ساكناً ومنغلقاً على جماعة معينة من جهة، فإنه من جهة أخرى يقوم بوظيفة الحفاظ على سكون المجتمع واستقراره، ويضمن ثباته، ويؤَمّن تناغم أفراده وانسجامهم. إنه ساكن لأنه يُسَكّن النفوس ويربطها بغيرها وبمجتمعها، وهو الدور نفسه الذي تقوم به الأخلاق الاجتماعية المنغلقة. ومن الآليات المعتمدة في هذا التسكين التقليدُ أو المحاكاة التي تحضر في التجربة الدينية الحركية من خلال تقليد هؤلاء المتصوفة والأبطال، كما أنها في التجربة الدينية الساكنة تعتبر مبدأ تنشئة الأفراد اجتماعيّاً[47]. وبفكرة المحاكاة هذه، يكون برغسون قد سار في انسجام تام مع تصور ‘غابرييل طارد’ الذي يرى أن المحاكاة تعتبر مبدأ مفسراً للرابط الاجتماعي الذي يُحَدَّدُ بوصفه تأثيراً عن بعد، يُمَارَسُ من طرف فكر على فكر آخر؛ غايته إعادة تنشئة الفرد اجتماعيّاً وإدماجه في الحياة الاجتماعية[48]، وهو التأثير الذي يبتلع فردانية الإنسان ويلتهم استقلاليته، فَتَسْكُنُ جميع قواه وتستكين حدَّ الموت.
يرى كل فرد نفسه أكثر حرية وأقوى إرادة، وما من ضرورة أو قانون يمكن أن يعيق اختياراته، ويكبح جماح رغباته وأفعاله، ويتصور ذاته في استقلال عن غيره من الأفراد. لكن بمجرد أن تقترب إرادته وفعله من التحقق في الواقع، حتى تنبثق في وجهه قوى وقيود معاكسة، تضم في ثناياها العديد من السلط الاجتماعية والأخلاقية والدينية المتراكمة. فإذا كانت القوى الفردية تسلك في اتجاهها الخاص، فإن القوة الاجتماعية تُوحّد التوجه، وتسير بالأفراد صوب نظام موحد شبيه بالنظام الطبيعي. ورغم أن كل فرد يساهم في تكوين هذه القوة الاجتماعية، فليس في مُكنته الانعتاق من سيطرتها؛ لأنه خاضع لها ولا محيد له عنها. يُمَثل هذا جوهرَ الإلزام الذي هو من الضرورة كما العادةُ من الطبيعة[49]. إنه ضرورة أَلِفَهَا الإنسان إلى درجة أن صارت عادة وطبيعة، والعادة هي الدين، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، النابع من هذا الإلزام الاجتماعي. فعاداتنا عموماً هي سادتنا، بلغة ألان، اللاتي لا نقوَى على مقاومتهن[50].
إن هذه القوة الضاغطة والمُكرِهة هنا ذات الطابع الاجتماعي القائم على العادة والإلزام، والتي تُشَكّل منبع الدين الساكن والأخلاق المنغلقة، تجد لها ما يقابلها في المجتمعات المنفتحة التي يعُمُّها الدين الحركي والأخلاق المنفتحة؛ ونقصد هنا قوة أخرى لها الوزن ذاته، إن لم يكن أكبر وأعظم، هي القوة التي ينبع منها الدين الحركي المنفتح، لكنها قوة تُقَوي صاحبها ولا تُضعِفُه، تغمره في صيغة نداء خالص يُحَلّق به في علياء الروح والجمال والجلال.
2.1.2. الدين بما هو نداء بطولي وعبقرية أخلاقية وبشرية:
إذا كان الواجب الاجتماعي داخل المجتمع المغلق، المُمارَس على النفس المنغلقة والمُحَرِّكِ لها، ينبني على الضغط والقهر؛ ففي المجتمع المنفتح المقابل له ثمة قوى أخرى تمارس التأثير نفسه من حيث القوة، ولكن ذلك يتم بشكل مختلف أكثر حدة وشدة. إنه تأثيرٌ يكمن في تلك النماذج الحية والشخصيات العظيمة من ذوي النفوس المنفتحة الذين استطاعوا أن يجسدوا مِثالَ الترفع والبطولية والجسارة تجسيداً ملموساً وفعليّاً وواقعيّاً. فهم يمارسون على الأفراد جذباً يتجاوز قوة إلزامية العادات والأعراف؛ نظراً لما يحوزونه من هيبة وحظوة تُخاطبان في الآخرين روحانيتهم وحساسيتهم. إنهم يؤثرون في إرادة الفرد ويَكونُ لوجودِهم الباهرِ وَقْعٌ كبيرٌ وصدًى قويٌّ؛ إذ يتعلق بهم كل من تكاثف لديه هذا الحس فينجذب إليهم من تلقاء نفسه، بعد أن يتلقَّى نداءهم الذي يُهَيِّجُ عاطفته. لذلك، فإننا إزاء قوة ضاغطة من طراز آخر أكثر من فريد. في حضرة هؤلاء الأبطال تصير الذات كما لو أنها إزاء انفعال شديد وقوي، يتحول إلى إلزام إرادي وحر تنخرط الذات الأخرى طواعيةً في تَقَبُّلِه والرضا به، وهو انفعال يلتقي مع الإلزام الاجتماعي في مسألة فرض شيء ما، واقتضاء الفعل والعمل به؛ وذلك بصرف النظر عن الاختلاف في طبيعة كل إلزام منهما.
وكمثال على قوة الضغط هذه، نستحضر تجربة الانفعال الموسيقي الذي ينطلق هادئاً، ومع تَوَغُّلِنا مُبْحِرين في عالمه الساحر، يغدو شعورنا كما لو أننا تَحَلَّلنا من إرادتنا، وصرنا مُلزَمين بإرادة ما توحي لنا هي به، خاضعين لما تَبْعَثُه فينا وفي الوجود من فرح وجذل؛ فالمرح هو ماهية الموسيقى، وماهية المرح نفسه موسيقية هي الأخرى بلغة كليمون روسي[51]. إنها، كما يصفها شوبنهاور، تعبيرٌ مباشر عن الإرادة نفسها، ومن هنا ينشأ أثرها الفوري المُمارَس على الإرادة؛ أي تأثيرها في مشاعر المستمع وفي انفعالاته وعواطفه[52]. ولولا أن فِعلَ الإصغاء يتطلَّب منا تركيزاً معيناً، وجهداً خاصّاً -وهو ما لا يمكن بلوغه إلا في حالات نادرة- لانْصَرَفْنا دون وعي لِفِعْلِ ما توحي به هذه الموسيقى، مُضطرين إلى ذلك ومُكرهين عليه، نفرح لفرحها ونشقى لشقائها، بل إن الإنسانية قاطبة ستتماهى معها، وتتزيا بزيها، وتكتسي رداءها. لا تكتفِي الموسيقى هنا ببعث هذه العواطف والانفعالات في الإنسانية، وإنما تزرع الإنسانية نفسَها في تلك العواطف. هو ذا شأن معلمي ورسل الأخلاق وديدنهم؛ فللحياة عندهم رنين عاطفيّ غير متوقع، يشبه رنين سمفونيا جديدة؛ فَيدخلوننا معهم في هذه الموسيقى، لكي نترجمها إلى فعل وحركة[53].
إن سعي الناس وراء تلك الشخصيات المتميزة -أبطال الإنسانية- لم يتِم اعتباطاً، وإنما تلبية لضرورات أمْلَته، وجلعت لهؤلاء الأبطال أنصاراً يتبعونهم ويَجْرُون في إثرهم، ويتخلقون بأخلاقهم، دون أن يكونوا هم من سعى إلى ذلك؛ فقد حازوا ما حازوه بعفوية وتلقائية دون أن يتكبَّدوا مشقة تحصيله وعناء البحث عنه. لذلك نجدهم، أيضاً، لا يبذلون كثيراً من الجهود في النداء وجذب الناس وجلبهم إليهم، بل حَسْبُهُم وجودهم، فهو في حد ذاته نداء. فإذا تحدثنا، في الإلزام الطبيعي عن ‘الضغط و’الإرغام’، فإننا هنا بصدد نداءٍ فقط[54]، بيد أنه غيرُ متاحٍ التعرفُ على طبيعة هذا النداء ونوعيته إلا لمن تَأَتَّى له الوقوف في حضرة شخصية أخلاقية عظيمة، أو حكيم إنساني من هذه الطينة ومن هذا الوزن.
إذا كانت هناك صفة أخرى تصلح لأن نَسِمَ بها تلك الشخصيات المتفردة ذات الحظوة الكبيرة والمكانة المرموقة، والتي منها ينبع الدين الحركي المنفتح والأخلاق الإنسانية الكونية، فهي صفة ‘انفتاح النفس’؛ إذ في مقابل النفس المنغلقة توجد النفس المنفتحة التي، مَهْمَا وصفناها وحاولنا تحديدها تحديداً دقيقاً، لن نوفيها حقها. إنها نفس تشمل بِحُبّها البشرية كلها، بل إن حبها يطال الطبيعة ويمتد إلى عالم الحيوان والنبات وسائر الموجودات. لديها صورة تتجاوز أي مضمون يمكننا أن نُلْحِقَه بها، فهي لا تتوقف عنده أو عليه؛ وإنما تتعدَّاه دائماً وفي كل حين. ليس حبها لمثيلاتها من النفوس فقط، متى غِبْنَ انقطع تيار حبها. إنه حب شامل وعام ودائم، لا ينضب ولا يخفت. فهذا الإيثار أو الغيرية أو محبة الغير، كلها أمور تظل ثابتة في نفس من يمتلكها، حتى وإن لم يبقَ فوق وجه البسيطة حيٌّ عداه[55].
إن نفساً من هذا العيار لا تجد أدنى عناء أو حرج في التعاطف مع النفوس الأخرى ومحبتها والانفتاح على الوجود برمته. لا مرية أن هذه النفس ستترك بصمتها الخاصة على باقي النفوس، وستجذبها إليها عبر ندائها الخفي الذي سرعان ما ستمضي في إثره كل النفوس الشديدةُ الحساسية لما هو ساحر وحماسي. تكتسي علاقة البطل مع الغير هنا معنى آخر كله مرونة وانسيابية مِلؤُها المحبة والود والوصل، وليس الصراع والعنف. فمحبة الغير، في هذه الحالة، لم تَأتِ نتيجة موعظة أو إرشاد، أو إملاءات عمودية فوقية لا تتوافق مع القناعات الشخصية. إن ذلك كله نابع من إعجاب النفوس بِقِيَمِ نفسٍ راقية بلغت من الصفاء والنقاء مبلغاً لم يعد فيه مجال لما هو وضيع وخسيس.
لا شك، إذن، أننا أمام ثورة قيمية أنطولوجية وإتيقية، تتمثل في ما بات يحكم علاقات الناس من محبة وتقبُّل وضيافة ومشاركة وجدانية وصداقة، على خلاف ما تقتضيه منهم الحياة الاجتماعية. فأفراد المجتمع يتضامنون ويتحدون في سبيل بقاء مجتمعهم، لكنهم يحافظون مع ذلك على انغلاقهم، ويُسَيّجُون أنفسهم بقيود جامعة ومانعة، لدرجة أن الواحد منهم يكون على أهبة الاستعداد الدائم للهجوم على الغير المختلف والغريب، والانقضاض عليه والتصدي له، فقط لأنه عنصر دخيل على جماعته. والخطير هو اعتبار هذا السلوك واجباً ومُعَبّراً عن الروح الوطنية. لكن أن يأتي أناس بنظامٍ جديد، بُنُودُهُ المحبة والأخوة والاحترام إزاء البشرية جمعاء؛ فهذا لعمري ثورة على ما شرعت له الطبيعة، وعلى كل القوانين الوضعية، ثورة تضاهي ما تنسبه كتب التاريخ إلى الأنبياء والرسل. إن هذه الثورة الإيتيقية عبارة عن فِعْلٍ يُوَاجَهُ بِفِعْلٍ آخر معاكس لا محالة؛ فكان هذا مسار حياة حكماء الإنسانية وأبطالها الذين جوبهوا بشتى أنواع القيود والموانع، إلا أنهم قهروهم -حبّاً وليس عنفاً- ورفعوا شعار التحدي، واضعين الإنسان ومحبة الإنسانية على رأس غاياتهم.
إن النفس المنفتحة قد سَمَت عن كل ما هو مادي، وارتفعت عن جميع الحواجز إلى درجة أنها لا تقول بضرورة تخطي هذه الحواجز والتصدي لها؛ لأنها لا تعترف بها أصلاً. فقد ارتقت إلى عالم روحاني يُنزهها عن قيود المادة وضروراتها وعن كل الحجب. تتعامل هذه النفس المنفتحة وفق منطقِ أنَّ مُجردَ التفكيرِ في القيد أو الحاجز، وحتى في كيفية تجاوزه، يعد ضعفاً وتراجعاً. لذلك، فإنها تضرب عنه صفحاً لكي لا يؤرقها وجوده وتستمر في المَسير، ومعها تَسِير النفوس الأخرى كلها المزهوة بترك حياة الجمود والتكلس الفكري والعقدي، ومعانقة حياة آفزة ومنطلقة ومندفعة من انفتاح إلى انفتاح آخر. من هنا نَبَعَ الدين الحركي، ومن هنا انبثقت لَبِنَاتُ المجتمع المفتوح الأولى.
خلاصة القول، إذن، إن هناك منبعين للدين: المجتمع الناتج عن الطبيعة من جهة، والحدس الشخصي الذي تمتاز به بعض الشخصيات الفريدة والممتازة، والذي يتخذ عندها شكل نداء بطولي، من جهة أخرى.
يؤدي هذا التقسيم إلى نوعين من الأخلاق والدين: يتمخض عنِ المنبعِ الأول الدينُ الساكن والأخلاق المنغلقة، في حين يترتب عن الثاني دينٌ حركي وأخلاقٌ منفتحة[56]. دون أن يعني هذا أن التحول من المنغلق إلى المنفتح، ومن الساكن إلى الحركي، يتم تدريجيّاً وبالتطور، بل يحصل على نحو فُجائي ومباشر وفوري بواسطة الانفتاح على أبطال الإنسانية والأخلاق والقيم، وتَلَقّي ندائهم، والتشبُّع بخصالهم، والسمو إلى مقامهم.
إن هذا التقسيم الثنائي للأخلاق والدين، وهذان المنبعان؛ الانغلاق والانفتاح، على صلة وثيقة بالسَّوْرَة الحيوية، وبالضبط باللحظتين أو الحركتين الأساسيتين اللتين تطرقنا لهما في الفصول السابقة: لحظة المادة والجمود وَصِلَتُها بالعقل، ثم لحظة صعود الغريزة وانفتاحها على الأصل الأول الخلاق واتخاذها شكلَ حدسٍ ورؤية روحية مباشرة للروح وبواسطة الروح. تُعبّر اللحظة الأولى عن حركة الخلق المادي والطبيعي الذي تَوَقَّفَ عند حدود كائنات عضوية حية، تتطور تطوراً طبيعيّاً وحيويّاً. في حين تنهل اللحظة الثانية من حركة خلاقة وروحية تتجسد في أفراد متميزين تجاوزوا شرطهم الطبيعي وعانقوا روح الحياة وحياة الروح.
2.2. أنواع التجربة الدينية:
أضفى المنهج البرغسوني النقدي على مفهوم ‘الدين’، وخصوصاً فكرة ‘الإله’، الكثير من التميز والتفرد. فلا شك أن ‘إله’ برغسون هو ‘إله الفلاسفة’، على عكس ما اعتقده بعض الدارسين العرب والغربيين حين حاولوا تأويل روحانية برغسون وفلسفته في الدين من منظور ثيولوجي ضيق جدّاً، ما يتعارض مع فلسفته الطبيعية التي كانت مَنْهلاً أصيلاً لفلسفات معاصرة عديدة، كفلسفة الاختلاف لجيل دولوز، وفلسفة سارتر وغابرييل مارسيل الوجودية، وشخصانية مونيي، وروحانية لافيل الواقعية؛ فضلاً عن ليفيناس وميرلوبونتي وجانكيليفتش، وغيرهم كثير. إنها فلسفات مشبعة بنفحة برغسونية، وتُكَذّب كل تلك التأويلات التي زَجَّت ببرغسون في متاهات الغيبي واللاهوتي أَمَلاً في جعله ناطقاً رسميّاً باسم نزعاتها الضيقة والمتكلسة؛ وهو ما زاد من التباس المذهب البرغسوني على قرائه ودارسيه.
في تعريفه للدين، يؤكد برغسون أنه رد فعل من الطبيعة، إما ضد العقل، أو ضد يقين الموت. ومن رد الفعل هذا ستنبثق فكرة ‘الخلود’ ومعها فكرة ‘الإله’؛ أي إننا لسنا إزاء إله الأديان، وإنما هو إله وليد ظروف طبيعية ووجودية معينة، بسياقات حيوية محددة. وكلما اختلفت هذه الأخيرة، اقتضى الأمر ميلاد فكرة جديدة عن إله جديد. والولادة لا تأتي إلا بعد الموت طبعاً، ومن هنا يمكننا أن نُسقط فكرة ‘التطور الخلاق’ على الآلهة أيضاً.
2.2.1. موت الآلهة أو الدين بوصفه تجربة منفتحة وخلاقة:
قبل كتاب ‘منبعا الأخلاق والدين’ ما كان للباحث عن فكرة ‘الإله’ عند برغسون أن يجد ما يشفي غليله؛ اللهم إلا بعض المقاطع القصيرة والنُّــتَــف القليلة جدّاً من مجموع مؤلفاته التي تضم إشارات ضمنية وعميقة لا يمكن ملامستها إلا بالحفر فيها وتأويلها. ليس إله برغسون هو نفسه الإله الكلاسيكي كما نجده لدى اللاهوتيين وفي خلد المتدينين. إنه ليس إلهاً جامداً لا يتغير؛ إذ مادام كل ما هو موجود يدوم، فكذلك الإله لا بد وأن يتسم بالانفتاح والديمومة[57].
كيف يتحدد الإله البرغسوني إذن؟ إنه مبدأ للخلق[58]. وأقرب إلى فكرة أفلوطين والفارابي حول ‘الإله’ الذي يفيض منه كل شيء، وأساس الانبثاق المستمر للوجود؛ أي لا وجود لما هو كامل وتامُّ الصنع. ومن هنا يكون الإله حياةً دائمة وفعلاً حرّاً وجهداً خلاقاً ومبدعاً.
تتصل ‘حقيقةُ’ إِلهٍ ما بمدى إجماع الناس عليه واجتماعهم حوله، لذلك لم يكن يثير خلقهم المستمر للآلهة أي إشكال؛ فقد كان الناس يلاحظون عن كثب آلهة تموت أو بالأحرى تُقتل، وأخرى تُخلَق أو تُختَلَق، دون إبداء أي قلق أو رفض حيال ذلك، بل يبادرون إلى عبادتها دونما تردد أو تقاعس. وكان الأمر سيكون عكس ذلك، لو أن حقيقة الإله ملموسة وحسية، لكن ما دام الأمر وليد الملكة التخريفية، فإنه لا يعدو أن يكون مجرد نزوعٍ وإرادة شخصية، هي ‘إرادة الاعتقاد’ حسب توصيف وليام جيمس، وهو اختيار نابعٌ من هوى الإنسان؛ إذ يؤكد برغسون أن كل إله مخلوق في اعتقاد الفرد كان من الممكن أن يَحُلَّ محله إله غيره، وأن مُجمَّع الآلهة ومعبدها يوجد في استقلال عن الإنسان، لكنه تابع إليه من جهة قدرة الإنسان أن يُدخل إليه إلهاً ما، وينسب إليه الوجود[59]. وبهذا يمكننا أن نخلص إلى أن كل إله من الآلهة dieux على حدة، ممكن الوجود، في حين أن الألوهية أو الإله المطلق Dieu بوجه عام، ضروري الوجود وواجب. ويَخْلُصُ برغسون من هذا التحليل إلى أن الشِّرك لم تعرفه الأديان القائمة على الاعتقاد في الآلهة، وإنما شَهِدَته عبادة الأرواح فقط؛ فتلك هي التعددية الحقيقية. أما عبادة الآلهة، فتنطوي على توحيد كامن ما دامت الآلهة المتعددة، ممكنة الوجود، قد وُجدت تمثيلاً للإله واجب الوجود، وهو ما جعل من عبادتها عبادةً له.
إن الإله في تصور برغسون شخص له ميزاته وعيوبه، وله أيضاً طابعه الخاص، كما تربطه علاقات بآلهة أخرى، يمارس وظائف مهمة، كما أنه وحده من يستطيع فعلها، على عكس باقي الأرواح المختلفة والمتعددة التي تقوم بالعمل نفسه، وتملك اسماً مشتركاً غالباً ما لا يكون خاصّاً بها[60]. من خلال هذا التعريف الذي لا يفيد طبعاً تجسيم الإله، يتضح لنا أن سمته الأبرز هي التفرد وانعدام أي كفؤ له، فضلاً عن الوحدانية. هذا هو الإله الأول وخالق الكون ومبدعه. أما باقي الآلهة والأرواح، فسمتها التعدد والكثرة. وهذا ما يجعل منهم أفراداً des individus ينتمون لنوع محدد، وَهُم بذلك لا يختلفون عن الأفراد في عالم الحيوان والإنسان. أما الإله، فشَخصٌ متفرد ونسيج وَحْده sui generis. إن الفرد-الإنسان، مثلاً، عبارة عن جملة من الصفات والخصائص، تتعلق بالسن والبلد واللغة والوظيفة. أما الشخص، فهو وحدة متفردة؛ الأول مكاني والثاني زماني. وبهذا يكون الفرق بين الإله والأرواح فرقاً بين الشخص والفرد؛ ومن ثم تكون الوحدة الفردية لا زمانية، في حين أن الوحدة الشخصيةَ استمراريةٌ في التغير في الزمان، وهذا التطور هو الذي ينأى بالإله عن الأرواح تاريخيّاً[61]. إنه تطورٌ يُضفي الخلود على شخص الإله، في مقابل فناء الأرواح وآلهة الأساطير، وحتى الإنسان[62].
من الاعتقاد في الأرواح بزغت فكرة ‘الإله’. والإله متغيّر بطبيعته، حسب برغسون؛ إذ يتطور ويتحول. إنه لا يركن إلى حال ولا يدوم عليه، فقد كان في بادئ أمره متواضعاً، ومع التقدم في الحضارة والمدنية تَقَدَّمَ ونما هو أيضاً. يخلق الناس آلهتهم على شاكلة ثقافتهم وحضارتهم، ويُخْتَتَمُ هذا التطور بإله واحد، بعد أن كان هناك تعدد للآلهة. وهذا الإله هو إله الأمة أو الوطن. مهما بلغ الإله من التطور، فإنه لا يَكُفُّ ولا يستقر على حال، ويُصَوِّر لنا تاريخُ الديانات والآلهة والأساطير؛ ذلك الصراع الضروس القائم بين الآلهة التي كانت تلتهم بعضها بعضاً، وبين الإله القاضي والإله المقضي عليه تظهر آلهة أخرى أكثر تقدماً وجِدَّة. يتحدث ألان (إميل شارتيي) هنا مثلاً عن إله جديد يعتبره منبعاً لكل الآلهة؛ يتكلم ويأمر ويُعَوّض ويجازي ويعاقب. إله نلمسه بأيدينا ونشعر به بقلوبنا، يستمتع ويغضب ويعتذر… إلخ، فمن هو هذا الإله؟ إنه المجتمع نفسه: أنا وأنت والآخر، إنه نحن جميعاً، والذي بدونه لا يساوي الإنسان شيئاً ولن يساوي أي شيء. هكذا كان الدين الأول، وهكذا كانت فكرة الإله في اعتقادات الناس وفي طقوسهم التعبدية البدائية. تتطور الحياة ويتطور معها فكرهم وتمثلهم للدين وللإله أيضاً؛ فما من إله يصلح لكل زمان ومكان. إن لكل عصر إلهه[63].
يتطور الإله بشكل بطيء في الزمان وعلى نحو طبيعي في الغالب، لكن قد يحدث أن يتدخل الإنسان في هذا التطور، فيجعله اصطناعيّاً ومصطنعاً، ليتحول هذا الإله من إلهٍ طبيعي إلى إله مخلوق في الاعتقادات بلغة ابن عربي. فلو أخذنا آلهة الأولمب التي عرفها اليونان، نجدهم قد استلهموها من قصائد هوميروس وهيزيود ومن ملاحمهما، ثم قاموا بِلَمْلَمَتِها وجمعها حول إله الآلهة ‘زوس’ بعد أن أَضْفَوا عليها بعض الصفات والخصائص التي نهلوها من واقعهم المعيش ومن الظروف السياسية والاجتماعية والجغرافية التي كانت تميز اليونان آنذاك. وبعد ذلك، صارت تلك الآلهة مقبولة ومحط تقدير الإنسان اليوناني وتقديسه، رغم علمه بظروف وحيثيات نشأتها التي كان لا يتوانى في تناسيها.
يمكننا أن نقول إذن إن تاريخَ الألوهية تاريخُ تعددية. وبتعبير آخر، إن لكل واحد إلهه. وهذا التعدد يرمز إلى الإله الحي، وإلى حرية الإنسان في تصور الألوهية على النحو الخاص به، كما أنه أمارة على رفض ذلك الإله الجامد والسلبي[64]. لذلك، نجد مثلاً أن آلهة اليونان المتعددة قد اجتمعت في إله واحد هو ‘زوس’. وفي مصر قام فرعون بإبادة جميع الآلهة، ونصَّب نفسه إله الجميع تحت مُسمى ‘أخناتون’، وقد أخذ عنه المصريون هذا التقليد، فظلوا على مر السنين والعصور يُسمُّون أنفسهم أبناء ‘رع’. أما في باقي الحضارات الشرقية القديمة، فقد كان الملك أو الحاكم يحتل مكانة الإله، وكانت الرعية تُقدّسه، وتُهلّل لألوهيته في حياته وبعد مماته.
على الرغم من أن تاريخ الألوهية أو التأليه قديم جدّاً، يمكن أن نتحدث عما كانت تتسم به من انفتاح وتسامح مقارنة مع النماذج الأخرى التي ستظهر في ما بعد، خاصة الألوهية كما نجدها لدى الديانات التوحيدية؛ إذ إن تطور الإله وتغيره المستمر، كانا يسمحان للناس بإسقاط آلهة وتنصيب أخرى تبعاً لظروفهم وحاجاتهم، وهذا ما حال دون انغلاقهم وتقديسهم الأعمى لنموذج معين للإله، ما يفسر كيف أن تاريخ الأديان هو تاريخٌ لموت الآلهة وميلادها من جديد، كما أن الآلهة قد اتخذت شكل آلهة وظائف ومُهمات، تموت بموت وظائفها وأدوارها وتحيا بحياتها، وتزدهر كلما ارتفعت حدة حاجات الشعوب ونقائصها ورغباتها. وقد ترتَّب عن هذا أن غَدَت الحاجة هي أُمَّ العبادة والتأليه، أو بتعبير أدق نقول إن الحاجة هي أُمُّ اختراع الآلهة وخلقها، وكلما تقدمت الآلهة في السن وبلغت درجات عليا من التطور، انتقلت من وظائفها المادية لتكتسي صفات روحية وأخلاقية[65].
إن هذا الطابع الخلاق لفكرة ‘الإله’ وعلاقتها بالإنسان، وليد تأرجح تجربة الاعتقاد والتجربة الدينية بين الانغلاق والانفتاح، وبين الحركية والسكون، بين نموذج اجتماعي بسيط للدين وآخر روحي وروحاني يخوض في التجربة الدينية بِنَفَسٍ أنطولوجي ينظر إلى الإله بصفته فكرة وعلة طبيعية وكوسمولوجية للكون والإنسان، وليس مجرد إله لاهوتي يغضب ويعاقب وينتقم.
2.2.2. التجربة الدينية بين الحركية والسكون:
تُعَبّر كلمة ‘منبعا’ الواردة في عنوان كتاب برغسون حول الأخلاق والدين عن التفكير في بعض الآراء والتصورات التي بإمكانها أن تُشَكّل نظرة تامة ومتكاملة حول التجربة الدينية، انطلاقاً من أنها تجربةٌ دنيا (الدين البدائي الساكن والمنغلق)، وصولاً إلى الدين بوصفه تجربة سامية وعُليا (التجربة الصوفية أو الدين الحركي المنفتح). فَتَعَامُلُ برغسون مع الدين بنوعيه، باعتباره تجربةً، نابعٌ من إيمانه القوي بأن التجربة مصدرٌ أساس من مصادر المعرفة، بل إنه يقول: «لا يوجد مصدر آخر للمعرفة سوى التجربة»[66]. وبما أن الدينَ تجربةٌ عاطفية وانفعالية وسيكولوجية، فيمكن معرفته ودراسته بواسطة تقنيات وأدوات يتم استعارتها من حقول معرفية أخرى. والأهم من ذلك إمكانية التفكير فيه بوصفه تجربة شخصية وأنطولوجية وميتافيزيقية.
يُعدّ الانتقال من الدين السكوني والخارجي والمنغلق إلى الدين الحركي والجواني والمنفتح، من أبرز مظاهر التقدم التي بَلَغَتْهَا الإنسانية في درب الحضارة والتحضر، بل نقول إنه نتيجة خلاقة في المجتمعات التي تموت فيها الآلهة وتحيا، ولا يعني التقديس فيها معنى التجميد والتكليس؛ فقد كان هذا الانتقال بمثابة انقلاب ثوري جَعَلَ من تَقَدُّم الحياة وتطورها خلقاً وإبداعاً وتجديداً وليس مجرد امتداد أو اتساع. أصبح الإنسان صاحب النفس المنفتحة مُتَمّماً لحركة الحياة ورافعاً لمشعلها، ولم يَعُدْ مُجرد مُنتَفِعٍ سلبي بها. لقد صار، أكثر من ذلك، على اتصال بالسَّوْرَة الخلاقة وطامحاً إلى نقل ندائها للبشرية قاطبة، وفي ذلك استكمال لعملها المبدع. ويُمثّل هذا، حسب برغسون، جوهر الدين الحركي المنفتح وروحه الذي يظل في حاجة ماسة إلى الدين الساكن لكي يعبّر عن نفسه. لذلك نجد أن تاريخ الأديان، وكل العلوم التي عُنيت بعقائد الإنسان وَمِلَلِهِ وَنِحَلِه، كانت تولي عناية أكبر للدين السكوني قبل أن تهتم بالدين الحركي الذي لم يكن تَنَاوُلُه يتم إلا بوصفه تجربة نادرة جدّاً، لا يَخْبُرُها إلا خاصة الخاصة من الناس؛ ومن ثم لا يمكن القياس عليها، كما لو أنه لا دين إلا دين المجتمع.
يقتضي فهمُ جوهر الدين الانتقالَ من البحث في الدين السكوني والجامد والخارجي، إلى الخوض في الدين الحركي المنفتح والجواني؛ فالأول منغلق وتحت-عقلي، ظهر بسبب الحاجة إلى اتقاء الأخطار الصادرة عن العقل، وهو اتقاء يتم من خلال رد فعل الطبيعة. لذلك فإنه طبيعي؛ إذ يخدم النوع الإنساني أيضاً الذي يُمَثّل حلقة من سلسلة التطور الحيوي. وفي هذه المرحلة وُجِد الإنسان وتَزَودَ بالعقل، فنجمت عنه العديد من الأخطار. ولضرورة حيوية ستنبثق الوظيفة التخريفية، وسيظهر معها الدين والسحر وغيرها من أنماط التفكير اللاعقلية، والتي تروم تفادي تلك الأفكار وتحقيق مصالح الفرد والجماعة. وقد ظل الإنسان يدور في هذه الحلقة إلى أن انتشل نفسه بِجهدٍ خلاق رمى به في تيار التطور من جديد، بعيداً عن جمود العقل وأكثر قرباً من الحدس ومما فوق العقل؛ فكان هذا هو الدين الحركي الذي يُشَكِّلُ روحَ التجربة الدينية المنفتحة. وبين الدين ‘تحت العقلي’ والدين ‘فوق العقلي’ ثمة مجموعة من الأشكال الأخرى التي تتوسطهما، إلا أنها غير ذات بال أو قيمة مقارنة مع هذين الأقصويين والخالصين[67].
يمكننا القول إن الدين الساكن دين عقلي، وليدُ قدرة العقل الهدّامة، ونابعٌ من عمل الملكة التخريفية تجاه هذه القوة، وهو دين طبيعي، لكن ليس بالمعنى الذي يفيده مع القائلين بهذا الدين من أمثال روسو وجول سيمون وفولتير وغيرهم. إنه طبيعي نظراً لأن الطبيعة هي التي أوجدت العقل الذي تجاوزها خلال مرحلة معينة، ثم سعت لإيجاد قوة تتجاوزه، فكان الدين نتيجة لذلك. وفي مقابل هذا الدين الطبيعي، يوجد الدين الحركي فوق العقلي الذي يُعَدُّ وثبة خارج حدود الطبيعة والعقل.
لم تَكُن الأديان الساكنة statiques التي تحدث عنها برغسون أدياناً غير متحركة immobiles لم تشهد على أي تطور منتظم، لكنها، شأنها شأن كل ما هو بشري، كانت خاضعة لتأثير الزمان والمكان والثقافة. وتحت تأثير الأحداث والناس تَمَّ صُنْعُ تاريخ هذه الأديان وَتَمَّ تشكيله[68]؛ أي إن السكون هنا لا يعني انعدام التطور، بل قد نصفه بأنه تطور منغلق، أو أنه تطور غير خلاق وغير مبدع؛ خاضع لضرورات تتعلق بالزمان والمكان والإنسان.
إن الانغلاق والانفتاح ليسا معاً ضربين من الدين، وإنما هما المظهر المزدوج لكل دين، وهما كذلك بالنسبة إلى جميع المؤسسات البشرية. فالانفتاح يميل إلى الخلق والتجديد، والانغلاق ينزع نحو التثبيت من أجل الحفاظ والضمان: الأول مبدأ للحركة، والثاني مبدأ المحافظة أو لنقل إنه محافظ. الأول منبع الحياة والتقدم، والآخر هو قوة الاستمرارية وعادة الحفاظ على الحياة[69]. ومن ثم، فَرُوح الدين تكمن في دين الروح الخلاق والمبدع، ولا معنى لِزَعْمِ أَيِّ أَسَاسٍ قَارٍّ وَثابِتٍ وادعاء أنه هو روح الدين، قد يكون كذلك بالنسبة إلى دين ما، في حقبة معينة خاصة بشعب محدد. أما أن يكون روح الدين بالمطلق، فلا يمكن الجزم بذلك خارج معاني ‘الروح’ و’الوجود’ و’الحياة’.
على الرغم من تعدد منابع الدين التي تحدث عنها برغسون، إلا أنه وَجَدَ المنبع الأخير والنهائي في الحياة المُفَسِّرَةِ للحركة التي تكُفُّ من خلالها السَّوْرَة الحيوية عن تشكيل المجتمعات المغلقة، وتنتقل إلى خلق مجتمعات أخرى منفتحة عن طريق طفرة أو وثبة ‘un bond’ تجعلها مفتوحة في وجه الإنسانية جمعاء. إن تأرجح الحياة بين الصعود والنزول هو الذي يوضح الدين ومنابعه من منظور كوسمولوجي؛ ذلك الوضوح الذي يعادل وضوحاً آخر نلفيه على المستوى الميتافيزيقي والاجتماعي، والنابع أساساً من الصراع الحاصل بين الروح أو الفكر وبين ما هو اجتماعي[70].
إن التقسيم الثنائي الذي وضعه برغسون للدين: دين ساكن وآخر حركي، جعلنا إزاء مرتبتين متباينتين هما: ما تحت الديني وما فوقه l’infra et le supra-religieux[71] ومن خلال هذين المستويين يمكن أن نستشف التعارض بين الروحاني والاجتماعي؛ وبهذا يكون الدين مُتَجاوِزاً لحدود الممارسات والطقوس والشعائر الاجتماعية، ليغدو مرتبطاً بمجموعة من التجارب الأخرى، منها الخرافي والخيالي، ومنها الصوفي والعرفاني. وبِمثلِ هذه التجارب يمكننا أن نتبحر في فهم الإنسان أيضاً وليس الدين فقط. عندما نتحدَّث عن ‘ما دون أو ما تحت الديني’ فنقصد به ذلك الدين الطبيعي، باعتباره ميولاً بسيطة وتوجهات طبيعية وأولية وبدائية نحو قوة يتم اعتبارها الأصل الأصيل للوجود والحياة. في حين أن ‘ما فوق الديني’ يحيل على جملة من التجارب التي تفوق العقل وتتعداه إلى الحدس، كما تتجاوز ما هو اجتماعي وجمعي في الدين؛ والمراد به مجموع التجارب الصوفية والروحية. فإذا كان المستوى أو النوع الأول يتأسس على الإلزام والضرورة الاجتماعيين، ويهدف إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي وضمان بقائه، فإن النوع الثاني يروم تهذيب أخلاق الأفراد وقيمهم ونفوسهم والعمل على تجويدها وجعلها منفتحة وكونية وإنسانية ومتنورة.
تتسم التجربة الدينية الساكنة بنزعة محافظة قوية تروم الحفاظ على ما هو كائن، وضمان أن يظل على حاله؛ وذلك عبر تقييد المجتمع وجعله أكثر انضباطاً والتزاماً، والنأي به عن أي ثورة أو نهضة ممكنة، تحت ذريعة محاربة التفكك والانقسام المجتمعي، والعمل على تقوية الأواصر بين الأفراد، وتفادي قيام أي كيان سياسي آخر يمكنه أن يهدد أمن المجتمع وسِلمه. إن لهذا النمط من التجربة الدينية نزعة ماضوية، وتعلقاً بالتاريخ والذاكرة وبالقديم، على حساب المستقبل الجديد، وهو ما يُتَرْجَمُ في التمثلات والاعتقادات المنغلقة للمتدينين بهذا الدين الذين يعتبرون أنفسهم جنوداً ينبغي أن يتسلحوا للعدو المحتمل، وللخطر الممكن الذي يُحدق بهم من كل حدب وصوب. أما التجربة الدينية الحركية والمنفتحة -التصوف- فَتُشَكل ثورة على المعتقدات الاجتماعية السائدة، وانقلاباً روحيّاً على الآلية، تنفتح بالدرجة الأولى على الحياة، خصوصاً تلك الجوانية والعميقة، وتعيد للإنسان الثقة فيها، وهي دين لأنها لا تقطع إطلاقاً مع الدين الآخر -الدين الساكن- الذي يسبقها، وإنما تعتمد عليه، ومن ثم تتجاوزه كما يتجاوز الحدسُ العقلَ.
وفي الأخير لا بد أن نشير إلى وجود علاقة قوية بين تقسيم برغسون ‘الدين’ إلى ساكن وحركي، وتمييزه بين المغلق والمفتوح في الأخلاق؛ إذ إن طبيعة الدين ونوعيته تَتَبَدَّيَان لنا من خلال نوعية الأخلاق والقيم والمبادئ التي يتسم بها صاحب التجربة الدينية؛ فإذا كانت من النوع الإنساني الكوني المنفتح سَلَّمنا بأن دينه دين حركي مفتوح. أما إذا كانت أخلاقه قومية وقبلية مغلقة لا تؤمن إلا بما ينضوي تحت لواء المجتمع الذي يحتضنه، وتدعو إلى معاداة كل غريب ومقاطعته، والاستعداد الدائم لمواجهته، فلا مِرْية أن دينه سيكون ساكنا ومنغلقاً ومتزمتاً؛ وبالتالي، فإن التعارض بين المغلق والمفتوح لم يؤسس فقط لنظرية برغسون في الأخلاق، وإنما كان دعامة قوية استند عليها في بناء نظريته في الدين.
يتبدى هذا التصور البرغسوني جليّاً من خلال فعل ‘الحرب’؛ ففيه تلتقي الأخلاق المغلقة بالدين الساكن، ويمثل برغسون لذلك بنموذج شعبين يتحاربان ويتناحران، وكل منهما يدَّعي إيمانه بإله dieu، الشيء الذي يجعل منه إلهاً قوميّاً. أما الإله الذي يزعمونه ويتحاربون باسمه، فإله Dieu جميع الناس، ولو أنهم رأوه لَكَفُّوا عن الحرب والقتال[72]. فدينهم الساكن ذاك جعلهم يؤمنون بإله مجتمعي ووطني وقَبَلِي، إن لم نقل إنه إله وثني خلقوه وابتدعوه، فَصَوَّروه في معتقداتهم على نحو أضيق يتماشى ومصالحهم وحاجاتهم الخاصة، ويعمل على الربط بينهم برباط وثيق وقوي، ويميز جماعتهم عن باقي الجماعات الأخرى ويدرأ عنها أي خطر؛ وبذلك ضربوا صفحاً عن القيم الإنسانية العامة، وعن الأخلاق الكونية النبيلة التي لا يعلو فيها أي صوت فوق صوت الإنسان. ليس غريباً أن نجد هذا النموذج من الدين يدعو إلى الفحشاء والرذيلة والفسوق، ويكون عدوّاً للأخلاق ومُشرعاً للعنف ومُبيحاً للقتل. إن للتوادد والتعاضد بين أعضاء كل جماعة من هذه الجماعات أصلاً خرافيّاً ينبع من الملكة التخريفية في الإنسان، والتي ولَّدت لديه ديناً ساكناً ومنغلقاً، صارت معه الأخلاق متسمة هي أيضاً بالسمات عينها. لهذا، فإن «التخريف سلطة ويمتلك سلطة»[73]. وسلطته نابعة، في الأساس، من الضعف والعجز والخوف…إلخ، ومن كل الانفعالات التي تُربِكُ الوجود البشري.
[1] – الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان.
[2] – لسان العرب.
[3] – Brian J. Zinnbauer, and Kenneth I. Pragament: «Religiousness and Spirituality», in: Handbook of the Psychology of Religion and Spirituality, Edited by: Raymond F. Paloutzian and Crystal L. Park. The Guilford Press, New York, London (2005). p: 24 يقوم الدين التسلطي على تسليم الفرد بوجود قوة عليا تتجاوزه وتتحكم فيه، وهي قوة تقهره وتفرض أهليتها للطاعة والتبجيل والعبادة؛ ومعنى ذلك أن هذه القوة لا تفرض أحقيتها وجدارتها بالعبادة انطلاقاً من صفات خاصة بها وفيها، كالمحبة والعدل مثلاً، وإنما من خلال قوتها وسلطانها، وكل الأمور التي تُرغِم بها الإنسان على الخضوع والإذعان والعبادة، وتُظهِر له أن أي تماطلٍ أو تقصيرٍ في ذلك يعتبر إثماً وخطيئة. وبهذا يكون «العنصر الأساس في الدين التسلطي وفي التجربة الدينية التسلطية هو الخضوع والاستسلام لقوة تتجاوز الإنسان، والفضيلة الأساس في هذا الضرب من الدين هي الامتثال والرضوخ، أما الإثم العظيم فيها فهو التمرد والعصيان.» انظر: Fromm, Erich, Psychoanalysis and Religion, New Haven: Yale University Press, United States of America(1950). p: 35
[4] – الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان.
[5] – المعجم الفلسفي.
[6] -العروي، عبد الله، السنة والإصلاح.
[7]– الشهرستاني، أبو الفتح محمد عبد الكريم بن أبي بكر أحمد، الملل والنحل.
[8] – موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم
[9] – المعجم الفلسفي
[10]– Julia, Didier, Dictionnaire de la philosophie, Librairie Larousse, Paris (1964). p: 264
[11] – القاموس المحيط
[12] – العروي، عبد الله، السنة والإصلاح
[13]– Alain, Propos sur la religion, op. cit, p: 78
[14]– Comte- Sponville, André, L’esprit de l’athéisme, introduction à une spiritualité sans Dieu, 1 re édition, Editions Albin Michel, Le Livre de Poche, Paris (2008). p: 23
[15]– Comte-Sponville, André, Dictionnaire philosophique, op. cit, p: 788
[16]– Ferry, Luc, L’Homme-Dieu ou le sens de la vie, Editions Bernard Grasset, Paris(1996). p: 22
[17]– Heidegger, Martin, Chemins qui mènent nulle part, op. cit, p: 262
[18]– Comte- Sponville, André, L’esprit de l’athéisme, introduction à une spiritualité sans Dieu, op. cit, p: 25
[19]– Lalande, André, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, Vol. 2. op. cit, p: 916
[20]– مفاهيم التفلسف الغربي، معجم تحليلي عربي
[21] – Grondin, Jean, La philosophie de la religion, 2 ème édition, Collection `’Que sais-je ?”, PUF, Paris (2012). p: 67-68 يرى شيشرون أن الخرافة تتعلق بأولئك الناس الذين كانوا يقدمون التضحيات والقرابين، ويصلون ويتضرعون طيلة أيام بكاملها؛ ابتغاء أن يستمر أطفالهم على قيد الحياة. ويعتمدون في ذلك العديد من الأدعية التي يرتلونها على أمل أن تؤتي أُكلها، فيضمنون بقاء أبنائهم، ويتفادون أي خطر يمكن أن يُحْدِق بهم. إذا كان هذا هو الإنسان الخرافي أو المتطيّر
[22]– Comte- Sponville, André, L’esprit de l’athéisme, introduction à une spiritualité sans Dieu, op. cit, p: 29
[23] – Ibidem.
[24] – Jousset, David, Le vocabulaire théologique en philosophie, op. cit, p: 102 إن لكلمة ‘دين’، كما جاء في المعجم التحليلي للأستاذ ‘حمو النقاري’، معنيين أيضاً، وذلك عملاً بالاشتقاقين السابقين، وهما: ‘ما به يتقوى الاجتماعُ والوحدةُ’. و’ما يُتَمَسَّكُ به تقيداً وتبعية’؛ ومن ثم فإن ‘الدين’ يحيل، فلسفيّاً، على: ‘التقوى التي تربط البشر بالإله بوجه تُنجَزُ فيه جملة من الشعائر مُقَنَّنَة ومُقَعَّدَة’. انظر: النقاري، حمو، مفاهيم التفلسف الغربي، معجم تحليلي عربي¬ ?î?? ??à?¬ ?¤ ²??
[25]– üü¤ Lalande, André, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, Vol. 2. op. cit, p: 917
[26]– Ibid, p: 916
[27]– Comte-Sponville, André, Dictionnaire philosophique, op. cit, p: 789
[28] – é روسو، جان-جاك، دين الفطرة
[29]– Worms, Frédéric, Les 100 mots de la philosophie, op. cit, pp: 35-36
[30]– Bergson, Henri, La pensée et le mouvant, op. cit, p: 273
[31]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 127
[32]– Ibid, p: 137
[33]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 136
[34]– î¤ Bergson, Henri, Extrais de Lucrèce, Librairie CH. Delagrave, Paris (1884). p: 125Comte- Sponville, André, Le miel et l’absinthe, poésie et philosophie chez Lucrèce, 1 ère Edition, Hermann Editeurs, Le Livre de Poche, Paris (2008). p: 61 أما نيتشه، فيسير على المنوال ذاته، فيربط الدين بالأوهام التي يخلقها الناس، لكنهم ينسون أنها أوهام؛ وذلك لغايات وأهداف حياتية. إن الدين عنده وليد غرائز حيوية بدائية تنبعث تلبيةً لحاجات وجودية. لذلك يؤكد أنه لم يُعِر اهتمامه وانتباهه لتلك المفاهيم والتصورات الدينية مثل ‘الإله’و’خلود النفس’و’الخلاص’، وغيرها. وما كان ليضيع وقته في البحث فيها حتى لمَّا كان طفلاً، ربما لأنه، على حد قوله، لم يكن ساذجاً أو صبيانيّاً بما يكفي للقيام بذلك. وربما لأن الإلحاد مسألة طبيعية بالنسبة إليه، وهو ليس نتيجة شيء ما؛ وإنما يَعُدُّه أمراً غريزيّاً في الإنسان. يمكن الرجوع إلى كتابه: Nietzsche, Fréderic, Ecce Homo, Traduit de l’allemand par: Henri Albert. Denoël/Gonthier, Paris (1909). p: 38
[35]– Sitbon-Peillon, Brigitte, Religion, métaphysique et sociologie chez Bergson, une expérience intégrale, op. cit, p: 13
[36]– Worms, Frédéric: «Le clos et l’ouvert dans les deux Sources de la morale et de la religion: une distinction qui change tout», in: Bergson et la religion, nouvelles perspectives sur les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 56
[37]– Frédéric, Worms, Le vocabulaire de Bergson, op. cit, p: 57
[38]– Loisy, Alfred, La religion, op. cit, pp: 49-50
[39] – Lahbabi, Mohamed Aziz, Du clos à l’ouvert, Dar El Kitab, Casablanca(1961).
[40]– Conche, Marcel: «Flash-back», in: Ultimes réflexions, HDiffusion, Philosophie, Paris (2015). p: 16 إن هذا الوجود المنفتح هو الوجود الحقيقي الأصيل والجدير بإنسانية الإنسان بوصفه كائناً حرّاً ومفكراً، وقادراً على العودة الدائمة إلى ذاته والتساؤل حولها، وبخصوص كل ما يحيط بها؛ أي إنه ليس خانعاً يرى وجوده مسألة تحصيلِ حاصل، لا أصل له ولا غاية. يقول مارسيل كونش: «إن الدازاين هو وجود الإنسان باعتباره منفتحاً على العالم.» انظر: Conche, Marcel: «Le Dasein (l’Ouvert)», in: La liberté, Editions Les Belles Lettres, Collection «encre marine», Paris (2011). pp: 17-18
[41]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 1
[42]– Freud¬ Sigmund, Totem et tabou, Traduit de l’allemand par: D r S. Jankélévitch. Editions Petite Bibliothèque Payot, Paris (1984). p: 179 إن الأصل في الأخلاق والدين هو الشعور بالذنب الناتج عمَّا يسميه كانط بالذنب الأصلي أو الخطيئة الأصلية، الذي تتبناه الكنيسة وكل المؤسسات الدينية، والذي ليس في رأيه إلا أسطورة؛ ففكرة الشر لم تلج العالم بعد ارتكاب مجموعة من الجرائم؛ وإنما بفعل جملة من الأساطير والأكاذيب والأوهام، وعلى رأسها أسطورة خطيئة آدم. انظر: Kant, Emmanuel, La religion dans les limites de lasimple raison, Traduit par: J. Gibelin. Librairie Philosophique J. Vrin, Paris (2010). p: 111
[43]– Ibid, p: 31
[44]– Maine, De Biran, Œuvres Inédites, Tome 3, op. cit, p: 208-209 يتحدث مين دو بيران عن تأثير العادة على ملكة التفكير مبرزاً تحكمها في كل ما هو فيزيولوجي وعاطفي وانفعالي وسيكولوجي واجتماعي ولغوي، وحتى في ما هو فكري وإيديولوجي وثقافي. يمكن العودة إلى ما ختم به كتابه حول ‘تأثير العادة على ملكة التفكير’، انظر: Maine, De Biran, Influence de l’habitude sur la faculté de penser, Introduction de: Serge Nicolas, L’Harmattan, Paris (2006). p: 381-402
[45]– Loisy, Alfred, Y a-t-il deux sources de la morale et de la religion ? op. cit, p: 191
[46]– Alain, Propos sur la religion, op. cit, p: 225
[47]– Sitbon-Peillon, Brigitte: «Supraspiritualité et hyperspiritualité chez Bergson et Durkheim», in: Bergson et la religion, nouvelles perspectives sur les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 173
[48]– Tarde, Gabriel, Les lois de l’imitation, Félix Alcan Editeur, Paris (1890). p: 167 يتضح هذا الحوار بين برغسون وطارد من خلال التقديم الذي وضعه برغسون لكتاب ‘صفحات مختارة’ Pages choisies Bergson, Henri (1909): «Préface aux pages choisies de G. Tarde», in: Ecrits philosophiques, op. cit, pp: 377-378-379
[49]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 7
[50]– Alain, Eléments de la philosophie, op. cit, p: 242
[51]– Rosset, Clément, La force majeure, Les éditions de Minuit, Paris(1983). p: 53
[52]– Schopenhauer, Arthur, Le monde comme volonté et comme représentation, Traduit en français par: A. Burdea, Préface de: Clément Rosset. op. cit, p: 1189
[53]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 36
[54]– Ibid, p: 30
[55]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 34
[56]– Loisy, Alfred, Y a-t-il deux sources de la morale et de la religion ? op. cit, p: 18
[57]– Challaye, Félicien, Bergson, Editions Mellottée, Paris (1947). p: 213
[58]– Ibid, p: 217
[59]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 211
[60]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 197
[61]– Feneuil, Anthony, Bergson. Mystique et philosophie, PUF, Paris (2011). pp: 48-49
[62]– condition divine? ???î¤ Feneuil, Anthony, Bergson. Mystique et philosophie, op. cit, pp: 165-166
[63]– Badiou, Alain, Le siècle, Editions du Seuil, Paris (2005). p: 233-251
[64]– Ouaknin, Marc-Alain: «A chacun son Dieu», in: La plus belle histoire de Dieu, op. cit, p: 82
[65]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 203
[66]– Ibid, p: 263
[67]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 196
[68]– Loisy, Alfred, Y a-t-il deux sources de la morale et de la religion ? op. cit, pp: 176-177
[69]– Loisy, Alfred, Y a-t-il deux sources de la morale et de la religion ? op. cit, p: 182
[70]– Sitbon-Peillon, Brigitte, Religion, métaphysique et sociologie chez Bergson, une expérience intégrale, op. cit, p: 17
[71]– Sitbon-Peillon, Brigitte, Religion, métaphysique et sociologie chez Bergson, une expérience intégrale, op. cit, p: 12
[72]– Bergson, Henri, Les deux sources de la morale et de la religion, op. cit, p: 227
[73]– Worms, Frédéric: «Le clos et l’ouvert dans les deux sources de la morale et de la religion: une distinction qui change tout», op. cit, p: 58