تقديم:
إذا كان بعض المفكرين العرب أو المغاربة، كمحمّد عابد الجابري مثلاً قد تعرّض لموضوع العولمة من منطلق هاجس الدفاع عن “الهويّة والخصوصيّة” فهي عند علي حرب كما بيّن في كتابه “حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهويّة” ليست هاجسًا مخيفًا يجب أن ننهج تجاهه سياسة الاحتراز والتوجّس أو أن نقف ضدّها كحرّاس أوصياء على القيم، بل هي إمكان منفتح يعطي إمكانيّات قابلة للتطويع والتكييف والتحويل لما يتلاءم معنا ومع خصوصيّتنا. وفي صميم عمليّة التحويل هذه والتطويع يمكن للهويّة الخاصّة أن تتجدّد وتتمدّد، فالهوية ليست شيئًا ثابتًا وجامدًا، بل هي إبداع مستمرّ وابتكار للذات والمجتمع، وبثّ للحياة والديناميكيّة فيه. ومن هذا المنطلق يمضي علي حرب في التحليل ليكشف أنّ خطاب الهويّة خطاب طوباوي حول معطى ديناميكي يبنى بشكل مستمر في عمليّة تفاعليّة مع العناصر المشكلة للواقع والتاريخ، ولا يمكن أن نحكم عليه بالاستقرار والثبات لأنّ ثباته يعني الموت. وما يشكّل خطرًا كبيرًا على الخصوصيّة والهويّة ليس العولمة في حدّ ذاتها بل من يسمّون أنفسهم – حسب تعبيره – بالنخب المثقّفة لأنّهم يعيشون بنظره خارج الحدث والتاريخ، وخارج الواقع /واقع العولمة، بل هم لا يدركون هذا الواقع الجديد ولا صيرورة تشكّله التي لا تتوقّف. ومن هنا يعلن علي حرب نهاية الخطابات التقليدية حول التراث والحداثة لأنّ “ثنائية الهوية والعولمة” تتجاوز بقدر ما تستبطن، المتعارضات التي كانت متداولة حتى الآن، كثنائية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، أو الخصوصيّة والعالميّة. فلكلّ عصر قضاياه كما له فتوحاته واختراعاته” والسؤال الأساسي الذي ينبغي أن يطرح حسب علي حرب لفهم ظاهرة العولمة هو سؤال فهم طريقة تشكّل العالم المعاصر وصيرورته: “كيف يتشكّل العالم ويسير؟ وما هو دور الأفكار في ظلّ الانفجار التقني لوسائط الإعلام؟ وما مستقبل الهويات الثقافية في عصر المعلومة الكونيّة؟
وبنظرنا في خطاب العولمة والهويّة عند علي حرب يمكن توصيفه ومقاربته من خلال النظر للعولمة باعتبارها:
- العولمة هي التدفق السيّال للمعلومة والبضائع
- العولمة تحريك للأفكار والقيم والثقافات
- العولمة إمكان قابل للاستثمار والخلق والتحويل والتكييف
- العولمة هي التحالف بين الثالوث: المعرفة والسلطة والقوّة في تشكيل العالم
1- العولمة هي التدفّق السيّال للمعلومة والبضائع
بتأثير من فلاسفة الاختلاف وتيّار ما بعد الحداثة في فرنسا، من أمثال بودريار وجاك دريدا، ورجيس دوبريه، وغيرهم، يتبنّى علي حرب تصوّرًا للواقع الذي خلقته العولمة بكلّ آليّاتها الجديدة مؤسّسًا على مفهوم الافتراضي الزمني والمكاني، والافتراضي هنا ليس المتخيّل بل هو النسخة المتعدّدة الأصل وبدون أيّ أصل، وهكذا حسب علي حرب “نحن إزاء فتح كونيّ يتغيّر معه سير العالم على ما كان يجري عليه حتى الآن، سواء في عصر المصنع أو في عصر الحقل، حيث كان التعاطي مع الواقع يتمّ عبر المصنوعات المادية من السلع والأدوات، أو عبر الإنتاجات الذهنيّة من الأساطير والعقائد أو من المثل والأفكار والنظريّات.
ومع الدخول في عصر الحاسوب، انقلبت الأمور بالكليّة، إذ صار التعاطي مع العالم بأدواته الماديّة وأجهزته الإيديولوجية، من خلال خلق عالم آخر اصطناعي، أصبح يتحكّم بالواقع ومعطياته، عبر أنساق المعلومات وأنظمة الأرقام التي تجوب الفضاء السبرنطيقي. وتلك هي مفاعيل ثورة المعلومات التي هي الآن مدار الاختلاف والسجال. إنّها تشكّل واقعة العصر الأولى، عند من يحاول قراءة العولمة، ظاهرة مفردة، قراءة فعّالة ومثمرة. هذا الانقلاب الكوني حسب علي حرب يجعل نسق المعلومة وطريقة اشتغالها “بمثابة نظام الأنظمة في التفكير والعمل والبناء، في إدارة الكلمات والأشياء، إنّها ما يغيّر قواعد اللّعبة الوجوديّة، بقدر ما يبدّل وجه الحياة ويخلق أشكالاً جديدة من الروابط بين البشر، ولذا فهي بقدر ما تقوّض المعادلات وتخلخل سلم القيم، تعيد ترتيب الأدوار والأولويّات. ذلك أنّ المعلومة التي هي مبنى العولمة، والتي يدار بها الواقع، من الآن فصاعدًا، هي أوّلاً ذات طابع كوني، وهي ثانيًا متاحة أمام الجميع لكي يساهموا في إنتاجها واستثمارها، أو في نقلها وتداولها. ولكونها كذلك، فهي تخلق لأوّل مرّة الإمكان في أن يتعامل الناس بوصفهم وسطاء بعضهم مع بعض، بدلاً من أن يكونوا أوصياء أو وكلاء بعضهم على بعضهم، فالعولمة عند علي حرب كما قلنا يمكن قراءتها من منطلق التدفّق السيّال للمعلومات والبضائع حيث يقول “إنّ نظام المعلومة هو بنية العولمة ومكمن قوّتها السيّالة والجارفة فالعولمة استطاعت أن تتيح للجميع الحق في المعلومة وفي المشاركة في المعلومة بل وفي صياغتها وتحريرها وتعديلها في الآن نفسه لنأخذ مثال blooge أو المواقع الإخبارية فهي تتيح للقارئ التعليق والنقد في الآن نفسه، بل في إنشاء موقع أو مدوّنة لنشر معلومات أو أفكار ورؤى، أو الاعتراض على سياسيات حكومة محليّة وتكوين رأي عامّ متعاطف، أو قرّاء متابعين.
2- العولمة تحريك للأفكار والقيم والثقافات
يقول المثل الصيني، في تكثيف عميق لفلسفة الصورة، الصورة بألف كلمة، وما يصنع العالم اليوم هو الوسيط البصري وارتباط الأفراد والمجتمعات والثقافات بشكل وثيق الصلة اليوم بأجهزة الحاسوب/الشبكة العنكبوتية/الهواتف النقالة/أجهزة التلفاز/الصحون اللاقطة لذبذبات الأقمار الاصطناعية، فالفرد اليوم أصبح غير مقيّد بزمن ومكان محدّدين فهو موجود في جميع الأمكنة وحتى إن لم يكن وجوده فزيائيًّا فالوجود السبرنطيقي كما يحدّده علي حرب أو الوجود الافتراضي أو المصطنع، بتعبير أدقّ حسب بودريار، يتيح للفرد معرفة الأخبار وتلقيها من أيّ مكان وأيّ ثقافة في العالم، بل ومن أي نقطة مرجعيّة يوجد فيها فوق كوكب الأرض، لذلك فالحديث عن قيم أو ثقافة أو أفكار مشتركة لجماعة معيّنة هو عقم إبستمولوجي وعلميّ خطير لابدّ من التنصّل منه أو استئصاله، لأنّه لا يعي التحوّلات الجذريّة التي أحدثتها العولمة في العالم وفي المفاهيم التقليدية التي كان يدرك من خلالها العالم، والواقع المشكّل لذات العالم. فلم تعد مفاهيم من قبيل السلب/التناقض/الجدل/ مسعفة في إدراك مفهوم الواقع، بل لابدّ من فكر جذريّ كما ينادي بذلك بودريار أو فكر أثيريّ كما يسمّيه علي حرب قادر على مدّ الفرد بالعدّة المنهجيّة لفهم منطق العالم/الحدث، والمشاركة فيه من أجل استيعابه وتشكيل رؤية وقراءة حوله من صميم الحدث بلغة علي حرب “فالعولمة تطال الثقافة بالذات، بما هي منظومة من الرموز والقيم يخلع بواسطتها الإنسان المعنى على وجوده وتجاربه ومساعيه، فالثقافات بما هي مرجعيّات للدلالة وأنماط للوجود والحياة، خاصّة بكل أمة أو دولة أو مجتمع، تجد نفسها الآن عارية أمام تدفّق الصور والرسائل والعلامات التي تجوب الكرة الأرضيّة على مدار الساعة. وهذه الصحون اللاقطة تثير إشكالاً على الصعيد الخلقي بما تبثّه من الأفلام الإباحيّة وبرامج الخلاعة. فالمرء الذي تحوّل إلى مستهلك ثمّ إلى مشاهد، يعمّر مخيّلته نجوم الشاشة ولاعبو الكرة وعارضات الأزياء ومصمّمو الحواسيب. إنّه نمط واحد يكتسح أنماط الحياة وأنظمة الثقافة المختلفة، يتيح لبعضهم أن يتحدّث عن انتصار نموذج كونيّ يتجاوز تعدّد العوالم نحو عالم واحد ذي نمط موحّد، أيًّا يكن. فالعالم يتشكّل اليوم بطريقة مختلفة وبقوى جديدة، الأمر الذي يعني أنّ الثقافة بدأت تتغيّر، سواء من حيث أطرها ومضامينها، أو من حيث وسائطها ومسالكها، أو من حيث آليّات تشكّلها والقوى التي تسهم في إنتاجها واستهلاكها. والمهمّ في ذلك أنّ الوسائط تؤدّي إلى عولمة المعرفة، إذ تتيح للمرء الاطلاع على كلّ معارف العالم عبر الشبكات الإلكترونية التي بدأت تحلّ مكان المكتبات العامة”. وهكذا حسب علي حرب نقلاً عن فنليكرو في كتابه الإنسانيّة الضائعة نحن “إزاء إمكانيّات جديدة، للوجود والحياة، تنبثق على نحو لا نظير له من قبل. وهي تسفر ليس فقط عن عولمة السوق والمدينة والسياسة، بل تفضي إلى عولمة الأنا بما هي حامل لدلالة ومولّد للمعنى ومنتج للثّقافة والمعرفة“.
3- العولمة إمكان قابل للاستثمار والخلق والتحويل
يقول علي حرب “لقد حسبنا طويلاً من قبيل التهوين أو التهويل، أنّ بإمكان المرء أن ينسلخ عن تراثه أو ينقطع عن ماضيه وذاكرته. في حين أنّ الماضي هو ما يقودنا إلى ما نحن عليه في حاضرنا فإمّا أن نستثمره بصرفه إلى أعمال ومنجزات، وإمّا أن يتحوّل إلى عائق يصرفنا عن فهم الواقع وصناعة العالم. كذلك الموقف من الحداثة فبعضهم مازال يظنّ أنّنا لم ندخل عالم الحداثة بعد مع أنّنا ننتمي إلى الزمن الحديث منذ الطهطاوي بل منذ دخول المطبعة إلى جبل لبنان. فإمّا أن نكون حداثيّين خلاّقين منتجين وإمّا أن نكون مجرّد مستهلكين. تلك هي المشكلة. من هنا لا جدوى من إقامة التعارض بين الخصوصيّة والعالميّة لأنّه لا يوجد خصوصيّات، مع الفارق هو أنّ هناك خصوصيّات قويّة تفرض نفسها على مسرح الأمم بالخلق والابتكار. بهذا المعنى إمّا أن تكون خصوصيّة ثقافيّة مبدعة أي عالميّة أو لا تكون، والمشكل حسب علي حرب ليس في العولمة أو الأمركة بل لا خوف على الهوية، فالخطر الأخطر عليها نابع منّا نحن دعاة حمايتها والمحافظين على تكلّسها ضدّ سيرورة الواقع وتحولاته. من هنا فإنّ مشكل هويّتنا الثقافيّة ليست اكتساح العولمة والأمركة، على ما نظن ونتوهّم، بل في عجز أهلها عن إعادة ابتكارها وتشكيلها في سياق الأحداث والمجريات أو في ظلّ الفتوحات التقنيّة والتحوّلات التاريخيّة أي عجزهم عن عولمة هويّتهم وأنظمة اجتماعهم وحوسبة اقتصادهم وعقلنة سياستهم وكوننة فكرهم ومعارفهم، تلك هي المشكلة الحقيقيّة التي نهرب من مواجهتها: عجزنا حتى الآن عن خلق الأفكار وفتح المجالات، أو عن ابتكار المهامّ وتغيير الأدوار لمواجهة تحدّيات العولمة على صعدها المختلفة” فالعولمة إمكان يمكن استثماره لما يخدم الذات ويحرّرها.
4- العولمة هي التحالف بين الثالوث: المعرفة/السلطة/القوّة في تشكيل العالم
لا يمكن فهم ظاهرة العولمة في العالم المعاصر وكيف تتشكّل الهويّة دون فهم للتحوّل الجذري الذي مسّ تاريخيًّا العلاقة بين القوّة والمعرفة والسلطة، فكلّ هذا الثالوث أصبح عبارة عن ممارسة خفيّة تساهم في تشكيل الهويّة وقولبتها، وهو ما يشكّل ماهيّة العولمة واستراتيجيّتها، فآليات اشتغال الخطاب الإعلامي لا يمكن فهمها دون استحضار الأبعاد الثلاثة: السلطة والمعرفة والقوة، فرأس المال الماديّ الذي يشكّل قوّة المؤسّسة الإعلاميّة وكذلك الخبراء والمادّة المعرفيّة الموظّفة في البثّ الإعلاميّ بالإضافة إلى سلطة القائم على الاتصال ودور المادّة الإعلاميّة التي يقدّمها في تشكيل وعي الرأي العام وقولبته، هي عوامل أساسيّة في عصر العولمة.
إجمالاً يبقى كتاب عليّ حرب من الأعمال المهمّة التي يتعيّن النظر في تذكيرها بالواقع الجديد لفهم معنى الخصوصيّة والهويّة في هذا العالم المفتوح الجديد الذي يتوجّب علينا الانخراط في صناعته.