الديموقراطية والدين من منظور هابرماس

لو كان لنا أن نتساءل عن مكانة الدين في فكر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، لقلنا بأنّها لم تكن ثابتة بالمرة، بل عرفت ثلاث مراحل كبرى كادت كل واحدة منها أن تكون حاملة لبراديغم جديد يواكبها:

+ المرحلة الأولى، وتمتد إلى بدايات ثمانينات القرن الماضي، حيث نجد (لا سيما في كتابه التأسيسي “نظرية الفعل التواصلي”) أنّ هذا الفكر كان نقديًّا حادًّا بإزاء ما يسميه هابرماس (espace de la foi) بـ”مجال الإيمان”.

وهو أمر يتراءى لبعضهم طبيعيًّا، على اعتبار البصمة العميقة التي تركها الفكر الماركسي وخلفتها مدرسة فرانكفورت في فكر الرجل، حيث لم ينظر إلى الديني إلا في كونه “واقعًا استعباديًّا”، ينبني على رؤية ثنائية للعالم، تجعل الخلاص الأزلي أهم من الخلاص الدنيوي، وتجعل من الدين أداة لخدمة الأقوياء بالمحصلة النهائية.

وعليه، فإنّ هابرماس لم يتوان طيلة هذه الفترة، في المطالبة باستبعاد “الديني”، على خلفية من الاعتقاد بأنّ المجتمعات لا تستطيع العيش في ظل الحرية إلا بـ”قطعها مع أمبراطورية الميتافيزيقا، واتكائها على العقلانية التواصلية المبنية على المبادئ العلمانية لأخلاق المسؤولية الكونية”.

+ المرحلة الثانية، وتغطي الفترة ما بين أواسط ثمانينات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة. خلال هذه الفترة، انتقل هابرماس من التفكير على أساس براديغم “القطيعة” إلى التفكير باستحضار براديغم “الخوصصة”. ومؤدى هذا التفكير، حسب هابرماس (لا سيما في كتابه “الفكر ما بعد الميتافيزيقي”)، هو أنّ الدين “حاجة وجودية” قصوى. إنّه برأيه “ضروري للحياة العادية، لأنّ ثمة من الآلام ما لا يمكن مداواتها إلا باللجوء إلى الإيمان”.

وعلى الرغم من اعترافه بأنّه “قليل التحمس دينيًّا”، فإنّه يعترف (لا بل ويتفهم) بأنّ للدين “وظيفة مواساتية” كبيرة بالنسبة إلى شرائح واسعة من المجتمع. بيد أنّ كل ذلك لا يثنيه عن التحذير من ضرورة إبعاد الديني عن المجال السياسي، لأنّ هذا الأخير يجب أن يبقى “مجالاً عامًّا تحكمه العقلانية العلمانية، على النقيض من الدين الذي لا يمكن أن يطمح إلى أيّ كونية، ولا أن يكون مكمن أي تبرير عقلاني”.

+ أما في المرحلة الثالثة، مرحلة ما بعد تسعينات القرن الماضي، والتي تزامنت مع صدور كتابه “مستقبل الطبيعة الإنسانية”، فلم يتردد هابرماس في القول بأنّ الدين لا يجب أن يبقى متقوقعًا في سياج الفضاء الخاص، بل يجب أن ينخرط في الفضاء الاجتماعي، من خلال “المبادئ الأخلاقية” التي تحملها نصوصه التأسيسية، وأيضًا من خلال التقاليد التي بنيت عليها وتكرست. هذه اللحظة من فكر هابرماس تحمل في بطنها وثناياها بذور انبعاث “مجتمع ما بعد علماني” يبدو للكاتب ضروريًّا لتدبير الوجود الجماعي.

هذه المراحل الثلاث هي التي غالبا ما تقدم كتحقيب زمني لملامسة تعامل هابرماس مع الديني تحديدًا، ومع الدين بوجه عام. ومع أنّ بعض أفكار هذه المرحلة أو تلك قد لاقت انتقادات شديدة من لدن علماء الاجتماع على وجه التحديد، بزاوية “عودة الديني” التي نلحظها بالزمن الحاضر، أو جراء تدخل المؤسسات الدينية في قضايا الشأن العام، أو دور الدين في “التمثلات الجديدة للإنسان”، لا سيما في ظل ثورة العلم والتكنولوجيا، على الرغم من كل ذلك أقول، إنّ هذه المؤاخذات لم تذهب إلى حد تقويض منظومة تفكير هابرماس، لا سيما فيما يتعلق بمبدأ استقلالية السياسي، وضرورة نأيه بنفسه عن مجال الديني، في إطار ما سماه ويسميه دائمًا بـ”العقلانية العلمانية”.

بيد أنّ تعلق هابرماس بالعلمانية باعتبارها شكلاً من أشكال تنظيم العالم، “حيث ينتظم الوجود الجماعي (بعيدًا عن كل تأثير من لدن الديني) على أساس تبادل العقلانيات”، هذا التأثير سرعان ما تقلص منسوبه في ذهن الرجل، ليدفعه إلى الاعتراف بمحدوديته وبضرورة تجاوزه بالارتكاز على “قاعدة الديني”. لا بل إنّه يعتبر أنّ مسلسل الحداثة قد زاغ عن سكته عندما ركن جانبًا البعد التضامني الذي كان ينشده وينادي به منذ أزمان بعيدة.

ويرجع هابرماس ذلك إلى سببين اثنين مترابطين، جاءا نتاجًا لبعض الصيرورات الاجتماعية: الأول هو أنّ الوسيطين الكبيرين للاندماج الاجتماعي، اللذين هما السوق والسلطة، قد توقفا عن الاشتغال أو طال اشتغالهما العطب. فالاقتصاد اليوم أصبح بنظره، مهيمنًا ويشتغل بطريقة تجعل منه الموجه القوي لكل قطاعات الحياة: الكل بما في ذلك الصحة والتربية، باتا خاضعين “لأمبراطورية السلعة”، فيما ركن السياسي إلى المرتبة التالية، مرتبة حماية المصالح الكبرى، عوض تنظيم المصالح الخاصة وتوجيهها لتصب في معين المصلحة العامة.

أما السبب الثاني فهو ذو طبيعة ثقافية خالصة، ويرتبط بـ”النقاش المدني” باعتباره أول عنصر للإدماج في الديموقراطيات الدستورية: المداولة “السيدة” هي التي يجب أن تحكم السلطة والسوق بنظر هابرماس. إنّ مقاصدها تواصلية، لأنّ “تبادل الأقوال” هو الذي يؤدي إلى بناء مجال للتضامن.

هذا هو المفروض برأيه. إلا أنّه يلاحظ في المقابل، أنّ “الفعل الاستراتيجي” هو الذي أصبح حاسمًا، إذ إذا كان الفقراء لا يستطيعون الدلو بدلوهم في النقاش العام الدائر، فإنّ المواطنين النشيطين لا يستطيعون أكثر من أن يدافعوا على مصالحهم الخاصة، والخاصة فقط.

ولذلك، فإنّ هابرماس يرى أنّ أزمة المجتمعات هذه، والمتأتية من هيمنة الحرية النفعية، وتمركز الفردانيات حول الذات، وتقدم الآلة الإيديولوجية للمركب الرأسمالي، هذه الأزمة تحتاج بنظره إلى رد ما، من المفروض أن يكون للدين من بين ظهرانيه دور مركزي.

من جهة أخرى، فإنّ هابرماس لا يميز بين دين سماوي ودين آخر، بل يرى أنّ الديموقراطية “يجب أن تكون على استعداد للتعلم منها جميعًا”. ولعل السر في تركيزه على مركزية الدين تأتي من اعتبارين اثنين:

+ الأول ويرتبط بحاجة الناس إلى التنمية الذاتية. ولذلك نرى هابرماس يركز على فكرة أنّ المجتمع الديموقراطي مطالب بأن يحترم تطلعات الأفراد، المؤمنين منهم وغير المؤمنين: إنّ “الدولة الليبيرالية لا يجب أن تفرض على مواطنيها المتدينين واجبات غير متوازنة”. إنّها مدونة الديموقراطية الليبيرالية برأيه: أن ترتكن إلى الحياد بخصوص مختلف تمثلات العالم، وأن تقوم السلطة السياسية في صلب كل ذلك، بحماية التعددية وصون المعتقدات.

بموازاة ذلك، يرى الفيلسوف الألماني أنّ الفرد ليس وعيًا جافًّا ولا استقلالية دون مضمون. إنّه يطمح إلى أن يحدد مكانته انطلاقًا من الهوية الثقافية (والدينية) التي اكتسبها من المحيط الاجتماعي الذي يفعل فيه ويتفاعل معه. بالتالي، فلا يحق للدولة الليبيرالية أن تحول دون هذا المطلب أو تقف بوجه تكريس ذاك، اللهم إلا إذا أخل أحدها بالنظام الدستوري أو بآليات اشتغال النظام السياسي.

+ أما الاعتبار الثاني فيحيل على الفكر العلماني، والذي مفاده أنّ الديانات تخلق من “التشوهات الاجتماعية” أكثر مما تعمل على تخليص الفرد منها. لا يتفق هابرماس مع هذه النظرة، بل يرى بأنّ “النظم الدينية تساهم أكثر مما نظن في تخليص الإنسان”. أولاً لأنّ هذه النظم قد أفرزت مفهوم الحرية. إنّها أفرزتها ليس بوصفها مؤسسات وبنًى فوقية، بل باعتبارها نصوصًا مقدسة رفعت من قيمة “المسؤولية والاستقلالية والفردانية”، وثانيًا لأنّها فسحت المجال واسعًا أمام منطق حقوق الإنسان.

ثم إنّ الدين، من منظور هابرماس، قد أسهم في بناء مفهوم التضامن، حيث نجد به “كل الموارد لمناهضة الاستعباد وبناء نظام حياة، حيث يحصل كل فرد على نصيبه”. لا بل إنّه يذهب إلى حد القول بأنّ الوضعية الحالية قد جعلت من حضور الدين ضرورةً بديهيةً، لا سيما في ظل “احتلال العالم من لدن الرأسمالية المتقدمة والاكتشافات التقنو/علمية التي ارتهنت الإنسان، وكذا أمام تزايد مد النفعية وصمت المثقفين”. إنّ هابرماس، يقول بعضهم، قد بلغ مبلغًا “شارف على تغليف العقلانية بالإيمان”.

وعلى هذا الأساس، فإنّ هابرماس يعترف جهارة بأهمية الديني، لكنه لا يذهب إلى حد جعله في موقع يمكنه من حكم السياسي أو التحكم فيه، كونه يضع الدولة خارج سلطة “المجموعات الإيمانية”، ويفرد لهذه الأخيرة مجالاً خاصًّا بها.

وبكل الأحوال، وعلى الرغم من التحقيب الزمني الذي قدمناه أعلاه، والذي قد يتم إخضاع فكر هابرماس له لملامسة المنعرجات أو العثور على بعض التحيينات، فإنّ هذا الفكر يبقى مطبوعًا بتصور واحد يكاد هابرماس لا يخرج عنه كثيرًا:

°°- إنّه واضح عندما لا يريد أن يتم إخضاع الأفراد أو المجتمعات لتمثل خارجي كيفما كانت أهميته وضرورته. إنّه يطمح إلى “تحديد القرار الحكومي في مجرد تبادل الكلام السياسي، ووضع الدولة في موقع حيادي تجاه مختلف التمثلات الأخلاقية للعالم”. اللجوء للدين هنا وظيفي إلى حد ما، كونه يقتصر على تقوية استقلالية الفرد، لا على ارتهان قراره.

°°- وهو حاسم عندما يطرح مسألة حيادية السياسة وحضور الدين، إذ يرفض قطعًا تدخل الدين في مجال الدولة، فما بالك إدماجه أو إدغامه فيها. بيد أنّه ليس مع العلمانية المطلقة التي تشي بانتفاء العلاقة بين الدولة و”المجموعات الإيمانية”. إنّه مع أن تكون بينهما علاقة تشاركية، تمنح الدولة بموجبه لهذه المجموعات الدعم المالي، وتتحصل بالمقابل على “مصادر الحكمة” التي يتوفر عليها ممثلو الدين. إنّ من حق الأفراد، يقول هابرماس، أن يثمنوا بحرية وبالفضاء الاجتماعي، التقاليد التي يرتبطون ويتشبثون بها، من قبيل ممنوعات الأكل أو طقوس الذبح أو أشكال اللباس أو ما سواها، ولا يحق لأيّ جهة أن تصادر منهم ذلك بهذا الشكل أو ذاك.

°°- وهو ضد أن تتدخل السلطة الدينية أو تتموقع داخل جهاز الدولة، وتفرض بالتالي “وصاياها” على القانون الوضعي. إنّ المعايير التي تحددها الدولة يجب أن تبقى في منأى عن المراسيم الدينية، ولا يجب أن تسمو بأي شكل من الأشكال على مبادئ الحرية والمساواة التي ترسمها الديموقراطية الدستورية.

°°- ثم هو يشدد على أن يبقى خطاب الإيمان خارج مجال القرار السياسي، فيقول: “لا يجب لا على الإدارة ولا الحكومة ولا السلطة القضائية (في ظل النظام الديموقراطي) أن تبني مرجعيتها على البعد الديني لاتخاذ قراراتها، لأنّ من شأن ذلك أن يطعن في مبدأ حيادية الدولة إزاء تمثلات العالم المختلفة”.

بيد أنّه لا يحبذ الرأي القائل بضرورة إقصاء الخطاب الديني من فضاء النقاش العمومي. يقول هابرماس بهذا الخصوص: إنّ “التضامن بين أعضاء مجموعة ديموقراطية واحدة يستوجب أن يكون بمقدور المواطنين العلمانيين (داخل المجتمع المدني ومن بين ظهراني الفضاء السياسي العمومي) أن يلتقوا مع مواطنيهم المتدينين سواء بسواء”.

والهدف من “ندائه” هذا لا تغذيه الرغبة في أن تسهم “مصادر المعنى” التي يكتنزها الدين، في تعضيد التأثير الحضاري لمقترحات المواطنين، بل يذكيه الطموح في أن يسهم “الحوار المدني” في الخلوص إلى “نتائج عقلانية مقبولة” من لدن الجميع.

ولذلك، فليس من المبالغة في شيء القول بأنّ هابرماس يعتبر اليوم الأب الروحي “للعلمانية الناعمة”، على نقيض العلمانية الخشنة التي يتم الدفع بطرحها هنا وهناك.