محمد إقبال والدرس القرآني

يرى محمد إقبال[1]أن الفكر اليوناني شكل قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، وأسهم في توسيع النظر العقلي لدى المسلمين، ولكن إذا دققنا في مضمون الدرس القرآني من جهة، وفي مقالات المتكلمين من جهة ثانية، على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني، فسوف نقف عند “حقيقة بارزة، هي: أن الفلسفة اليونانية مع أنها وسعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، فقد غشت على أبصارهم في فهم القرآن”[2] ؛ فالحمولة الثقافية التي تميز بها الفكر اليوناني تختلف عن فلسفة القرآن للوجود وللحياة والإنسان”. وقد فات هذا الأمر المتقدمين من علماء الإسلام الذين عكفوا على درس القرآن بعدما بهرهم النظر الفلسفي القديم، فقرأوا الكتاب – القرآن- على ضوء الفكر اليوناني”[3] ؛ وهذا يعني أن الفكر الديني القديم قد تشكل مفصولا عن فلسفة القرآن ومعارفه التي حاول الكاتب أن يقترب منها، من خلال تأمله وتعامله المباشر معه في تجاوز لآليات علوم القرآن، ولآراء المفسرين وغيرهم. وقد أثر عنه قوله: “واعجباه القرآن الذي جاء ليهبك الحياة، يقرأ عليك إذا حضرتك الوفاة”، وقوله أيضاً: “أشد نصيحة أثرت فيَ تلقيتها من والدي، يا بني اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك”.

ومما خلص إليه إقبال في قراءته للقرآن هي أن الهدف الرئيس للقرآن “هو أن يوقظ في نفس الإنسان شعورا أسمى بما بينه وبين الخالق وبين الكون من علاقات متعددة “[4] ؛ فالمعرفة الدينية تتأتى نتيجة الرياضة الدينية التي ينتج عنها الكثير من الحقائق، وهذا لا يعني أن التجربة الدينية لا تعرف التغير والتطور، بل كل التجارب الروحية قابلة للنقد والمراجعة، فنبي الإسلام كان أول من تناول بالنظر النقدي التجارب الروحانية،[5] فالتجربة الدينية ينبغي ألا تنفصل عن النظر في الكون الذي قوامه التجربة والملاحظة. قال تعالى: ” وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) “(الإسراء). وعليه، ففلسفة القرآن تنبني على الربط بين المعرفة الدينية التي قوامها الروح، وبين المعرفة الكونية التي قوامها النظر في الكون.

فينبغي أن ينظر للصلاة بأنها “تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل في الطبيعة”[6] مع العلم أن القرآن الكريم مليء بالآيات والسور التي تتحدث عن الطبيعة ” مما كوَن في أتباعه شعورا بتقدير الواقع، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث”؛[7] فالعلم بالطبيعة في واقع الأمر ما هو إلا علم بسنن الله ونواميسه في الوجود، وهذا نوع من الاتصال بالذات المطلقة، وصورة أخرى من صور العبادة. وعليه، فالجزء الكبير من مشاكل العالم الإسلامي اليوم يرتبط بتخلي الإنسان المسلم عن الروح الواقعية للقرآن وعن المراجعة النقدية لتجاربه الروحية التي ينبغي أن تبنى على النظر في الطبيعة، فهو اليوم في حاجة إلى يقظة روحية تتجدد من خلالها معالم التجربة الدينية لديه بشكل يتوافق مع روح العصر، وفي حاجة كذلك إلى يقظة عقلية يواكب من خلالها التطور العلمي الحديث.

وبهذا، فدعوة إقبال هي دعوة إلى طبع التجارب الدينية بالعلمية وفصلها عن الخرافة والوهم، وفي الوقت ذاته دعوة إلى تدين المعارف الكونية وفصلها عن الموقف السلبي من المعرفة الدينية (الدين)؛ فكلمة التوحيد التي تنتج عن المعرفة الدينية، هي نفسها مفاد المعرفة الكونية[8]. وبهذه المقاربة يضعنا إقبال أمام إشكال معرفي نلخصه في السؤال التالي : ما هي العلاقة المنهجية التي تربط بين المعرفة الدينية والمعرفة الكونية؟ فالفكر الإسلامي المعاصر اليوم في حاجة إلى مقاربة كلية لهذه الإشكالية، خاصة أنه يحمل كتابا دينيا (القرآن) موصوفا بالعلمية والكونية والعالمية.

إن إقبال يلح كثيرا على ضرورة عدم الإعراض عن مسالك المعرفة الدينية التي سلكها الأنبياء والأولياء، وقد أعطى تصورا جديدا لمفهوم النبوة، التي كانت قبل ختمها تعود إلى فرد بعينه إلى أن آل الأمر إلى خاتم النبيين محمد عليه السلام. فختم النبوة بمحمد، لا يعني أن النبوة قد انقطعت، بل هي خروج من المخصوص إلى العام وتولي الإنسان هذه المهمة بدون تعيين، معتمدا في ذلك على رسائله الذاتية، فمن الطبيعي أن يبطل الإسلام الرهبنة، ويناشد القرآن العقل والتجربة على الدوام ويصر على” أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين – يعد – من مصادر المعرفة الإنسانية، وكل هذه صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة “[9] وخروجها من دائرة التعيين إلى دائرة الكل، مع العلم أن ” القرآن يعتمد الأنفس والآفاق مصادر للمعرفة؛ فالذات الإلهية ترينا آياتها في أنفسنا وفي العالم الخارجي على سواء، ولهذا وجب على الإنسان أن يحكم على كل ناحية من نواحي التجربة في إفادة العلم”،[10] قال تعالى :” سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) ” (فصلت)

لقد عرض محمد إقبال في كتابهتجديد الفكر الديني في الإسلام” الكثير من آراء الفلاسفة الأربيين، مثل: ديكارت (ت.1650م) وكانت (ت. 1804م) وهيجل (ت.1842م) ونيتشه (ت. 1900م) وبرجسون (ت.1941م) وغيرهم، كما بين العديد من إشكالات الفلسفة المعاصرة، وكان حريصا على الكشف عن نظرة القرآن الداخلية لتلك القضايا الفلسفية، وعيا منه بنسبية الحقيقة، على اعتبار أن كل لحظة في الحياة ينشأ عنها شيء جديد غير متنبأ به أصلا، كما أن الوجود في الزمان الحقيقي لا يعني التقيد بأغلال الزمان، وإنما هو القدرة على الخلق والإبداع والابتكار،[11] قال تعالى : ” كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)” (الرحمن) هذه الحقيقة تم تغييبها في الجزء الكبير من سيرورة تاريخ الفكر الديني في الإسلام؛ فالمهمة الملقاة على عاتق الإنسان المسلم اليوم مهمة صعبة، فعليه أن يفكر في النظام المعرفي للإسلام كله.

إن أهم ما جاء به إقبال هو تعامله المباشر مع القرآن الكريم، ودعوته إلى الكشف عن فلسفة القرآن للحياة والوجود والإنسان. ولقد قدم المؤلف قراءات جديدة لقصة آدم، كما عمل على تجلي معاني الكثير من الآيات القرآنية، إيمانا منه بمقولة أحد المتصوفة، التي مفادها: ” إن فهم الكتاب لا يتيسر حتى يتنزل على المؤمن كما تنزل على النبي”.[12]


[1]– محمدإقبال مفكر هندي توفي سنة 1938م، وهو من أشهر دعاة تجديد الفكر الديني.

[2]– محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية،ص.10

[3]– نفسه،ص.11

[4]– نفسه،ص.17

[5]– نفسه،ص.25

[6]– نفسه،ص.109

[7]– نفسه،ص.23

[8]– نفسه، ص.78. وما بعدها.

[9]– نفسه، ص.150

[10]– نفسه.

[11]– نفسه، ص.64

[12]– نفسه،ص. 214