الغلوّ الدينيّ بين مطرقة الإفراط وسندان التّفريط: "مقالات الغلوّ الدّينيّ واللّادينيّ" للمفكّر محمّد عمارة

يعدّ كتاب “مقالات الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ“، لمؤلّفه محمد عمارة، من الكتب المهمّة في مؤلَّفاته؛ حيث يناقش قضيّة من القضايا المهمّة والمحوريّة التي شغلت أذهان المفكّرين على مرّ العصور، ومازالت مطروحة بقوّة على السّاحة المعاصرة، وهي قضيّة الغلو الدينيّ، وينطلق عمارة في هذا الكتاب بإلقاء الضّوء على هذه الظاهرة؛ حيث يشير إلى أنّ ظاهرة الغلوّ الدينيّ عملة ذات وجهين؛ إفراط وتفريط، دينيّ ولادينيّ، وأنّه، منذ بروز ظاهرة الغلوّ الدينيّ التي انطلقت من دعاوي غيبة الحاكمية الإلهيّة عن مجتمعاتنا الإسلاميّة، وجاهلية هذه المجتمعات برزت في ذات توقيت ظاهرة الغلو اللّادينيّ، الّتي اتّخذت من التّأويل العبثيّ سبيلًا لتفريغ الدين من حقيقته وجوهره، وبلغت حدّ الفجور في تجريح ثوابت الاعتقاد، الأمر الذي عاد فغذّى مقولات الغلوّ الدينيّ في صفوف الشباب؛ لذا يري (عمارة) أن السبيل الوحيد للخروج من هذه الحلقة المفرغة المدمّرة التي يحرسها الاستعمار؛ هو الدّراسات النقديّة المتوازنة لكل الغلاة، وتلك هي المهمَّة الأساسيّة الّتي تنهض بها فصول هذا الكتاب.

ولقد صدر كتاب “مقالات الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ”، لمؤلّفه محمد عمارة، عن مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط 1، 2004م، ويتكوّن من مائة وأربعون صفحة من الحجم المتوسّط، ويتشكّل من فهرس للمحتويات (ص ص 4-6)، ومقدّمة (ص ص 7- 15)، وينقسم إلى بابين رئيسين: الباب الأوّل؛ تحت عنوان (في الغلو الدّينيّ)، يعالج فيه مقولات: الحاكميّة في فكر المودوديّ (ص ص 16- 22)، مقولة الجاهليّة والتكفير في فكر المودودي وسيّد قطب (ص ص 23- 36)، ومقولة التّكفير (ص ص 36- 45)، ثمّ، أخيرًا في هذا الباب، يعرض مقولة الفرقة الناجية (ص ص 46- 52).

أمّا الباب الثاني: جاء تحت عنوان “في الغلوّ اللّادينيّ”، ويعرض لموضوعات “التّأويل العبثيّ (ص ص 53- 73)، ثمّ الفجور العلمانيّ (ص ص 74- 89)، ثمّ، في الخاتمة؛ يقوم بتخريج حديث افتراق الأمّة (ص ص 106- 122).

وعند استعراض الكتاب؛ نجد المؤلّف يشير في المقدّمة إلى تعريف ظاهرة الغلو الدينيّ؛ التي تتمثّل في تجاوز حدّ الاعتدال والوسطية الإسلاميّة الجامعة لكلّ عناصر الحقّ والعدل، وأنّ الغلوّ الدينيّ يقع بين الإفراط والتّفريط، ويرى عمارة أنّ العقلانيّة تمثّل غلوًّا إفراطًا لأنّها تؤلّه العقل، وفي مقابل هذا الغلوّ في الإفراط؛ يوجد غلو التفريط الذي ينكر النظر العقليّ، ويؤكّد على ضرورة الجمع بين العقل والنّقل وإحداث توازن بينهما([1]).

من هنا؛ نرى أنّ الوسطيّة الإسلاميّة تقع في موقع متوسّط بين الإفراط والتّفريط.

ثمّ يجذّر (عمارة) نشأة الغلو الدينيّ، ويعود بالجذور إلى النشأة الأولى، ويشير إلى أنّ (الخوارج هم أوّل من ارتاد أوّل حلقات الغلوّ المنظّم كفرقة في الفكر الإسلاميّ، عندما جعلوا حاكميّة الله هي قضاؤه التشريعيّ، نافية بذلك حاكميّة البشر في الدّولة، ومن هنا؛ جاءت الوسطيّة الإسلاميّة الجامعة لحاكمية الله ولحاكميّة البشر المستخلَفين عن الله في مواجهة هذا الغلوّ([2]).

ثمّ يتابع المؤلّف سيره لتحليل ظاهرة الغلوّ الدّينيّ، ويتعرّض في الباب الأوّل إلى مقولة الحاكميّة عند أبو الأعلى المودودي، ويرى أنّ هذه المقولة تعرّضت لخلط ولبس كبيرين عنده، وتمّ إساءة فهمها، ولم توضع في السّياق المناسب عنده، ويتطرّق إلى عدّة حقائق مهمّة تساعد في إزالة اللّبس والخلط عن الحاكميّة، ومن أهمّ هذه الحقائق، كما يشير المؤلّف، أنّ فكرة الحاكميّة عند المودوديّ قد ارتبطت بظروف سياسيّة واجتماعيّة متعلّقة بشبه القارة الهنديّة، وظهور باكستان كأقليّة عدديّة، لذا؛ رفض المودودي الحاكمية البشرية التي تثمرها الديمقراطية والانتخابات النيابيّة، فهي تمثّل، في نظر المودوديّ، كارثة على الإسلام([3]).

ويؤكّد المؤلّف حقيقة مهمّة؛ هي أنّ الغلوّ الإسلاميّ فرّغ مفهوم الحاكميّة عند المودودي من معناها الحقيقيّ الواضح، ويجب أن نشير إلى أنّ الحاكميّة عند المودوديّ تنطلق من فكرة جوهريّة؛ هي أنّها خالصة لله، كما أنّها ترتكز على النّظرة السياسيّة في الإسلام، وتقوم على عنصر أساسيّ؛ هو أن تنزع جميع السلطات الأمر والتّشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين.

ويلفت المؤلّف الانتباه إلى أنّ المودوديّ لم ينكر الحاكميّة البشريّة؛ بل، على العكس، يؤيّدها، لكن لا بدّ من أن تكون مقيّدة بأطر الشريعة الإسلاميّة وثوابتها، ويتجلّى المجال الأوسع لهذه الحاكميّة البشريّة في التّشريع الدّستوريّ والقانونيّ والإداريّ بالدّولة الإسلاميّة([4]).

لقد أشار المؤلّف إلى أنّ الغلاة قد أغفلوا الإشارة إلى صياغات المودوديّ المتوازنة المنضبطة، وأنّ في الخلافة معنى الحاكميّة والسّلطان، باعتبار أنّها خلافة إلهيّة ونيابة عن الحاكم الأعلى،

ثمّ يستخلص عمارة نتيجة مهمّة في هذا السّياق؛ أي في حديثه عن الحاكميّة عند المودوديّ، وهي: أنّ مقولة الحاكميّة لا نجد لها أثرًا في كتابات روّاد الصّحوة الإسلاميّة؛ فهي خصيصة مودوديّة استدعاها الرّجل من تراث الخوارج القدماء لملابسات هنديّة خاصّة، كانت هذه بمثابة فكر سياسيّ يعالج واقعًا متميّزًا؛ لذا أصبحت الحاكميّة مشكلة من وجهة نظر عمارة، عندما تأسّست على مقولتها الغلوّ الإسلاميّ عند الخوارج القدماء([5]).

ثمّ يتطرّق المؤلّف إلى معالجة الموضوع الثّاني من الباب الأوّل، وهو بعنوان “الجاهليّة والتّكفير في فكر المودوديّ وسيّد قطب”، ويرى أنّه إذا كانت فكرة الحاكميّة عند المودوديّ قد تمّ التّعامل معها بشكل فيه لبس وخلط؛ فإنّ مصطلح الجاهليّة عنده يحتاج إلى نقد موضوعيّ، ويعرّف الجاهليّة بأنّها: زمن الفترة التي لا يوجد بها إسلام؛ أي الفترة بين رسالتين وشريعتين، عندما لا يوجد دين صحيح، ويكون الشّرك والوثنيّة محور الاعتقاد([6]).

ويجب أن نشير إلى أنّ مقولة الجاهليّة عند المودوديّ تمثّل نتيجة طبيعيّة لغياب الحاكميّة الإلهيّة عن المجتمعات والدّول الإسلاميّة، ويشير عمارة إلى أنّ مقولة الجاهليّة عند المودوديّ يصاحبها رواج في العلوم والفنون والآداب والمعارف، وأنّ الحضارة الّتي ازدهرت في قرطبة وبغداد لا دخل للإسلام فيها؛ بل يجب أن تكتب في سجل الجرائم بمداد أسود([7]).

ويمضي المؤلّف في تحليل مقولة الجاهليّة عند (سيّد قطب)، ويرى أنّ قطب انطلق من نفس الغلوّ غير المبرّر عند المودوديّ في معالجة مقولة الجاهليّة.

وكتب في كتابه الشّهير “معالم في الطّريق” أنّه يدخل في إطار المجتمع الجاهليّ تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنّها مسلمة؛ فالجاهليّة عند قطب تصبغ هذه المجتمعات؛ لأنّها تدين بحاكميّة غير الله، فتنتفي من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها، ويرى قطب أن الأمة الإسلاميّة قد انقطع وجودها منذ قرون كثيرة، عندما انقطع الحكم بشريعة الله([8]).

ويرى عمارة أنّ المبالغات قد وصلت ذروتها عند قطب في قوله: إنّ العالم اليوم يعيش جاهليّة أظلم ممّا عاصرها الإسلام؛ لأنّه، في نظره، يوجد جاهليّة في تصوّرات النّاس وعقائدهم.

ومن وجهة نظر عمارة؛ يعدّ هذا المستوى من الغلوّ غير المسبوق في تاريخ الصّحوة الإسلاميّة الحديثة والمعاصرة علي الإطلاق؛ لذا كانت مقولات الغلوّ التي رفع شعارها المودوديّ وقطب من خلال وجهة نظرهم وموقفهم من الحاكميّة والجاهلية؛ هي مقولات خطرة، كما أنّ هذه المقولات هي التي أفرغت وأنتجت لنا الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة، الّتي استخدمت العنف والسّلاح كوسيلة لتغيير المجتمع([9]).

ويشير المؤلّف إلى أنّ العنف والغضب والاحتجاج قد انطلق من عباءة مقولات الغلو- الحاكميّة – الجاهليّة- التّكفير، ووصل الغلوّ أقصاه عندما ترى هذه الجماعات المتشدّدة أنّ حكّام المسلمين لا يحملون من الإسلام إلّا أسماء، وإن صلّوا وصاموا وادّعوا أنّهم مسلمين؛ لذا ترى هذه الجماعات أنّ السيف هو السبيل لإزالة هذه الطّواغيت([10]).

ثمّ يحاول المؤلّف، بنظرة نقديّة موضوعيّة، أن يضع منهاج التّعامل مع مقالات الغلاة، من أجل تلاشيها وتفادي الوقوع فيها، كما يحدّد الخطوات العملية لهذا المنهج، ويرى أنّ الخطوة الأولى للتّعامل مع هذه المقالات؛ هي الإقلاع عن منهاج الوقوف إزاء هذه المقولات عند حدّ الرّفض والإدانة والتّسفيه، ويؤكّد أنّ مقولات الغلوّ والتطرّف سبّبت خسائر فادحة، وأثمرت الكثير من المآسي لمجتمعات المسلمين([11])، ثمّ يشخّص أكبر أمراض مقولات الغلوّ، وهي؛ أنّ أصحابها هم جماعات نصوصيّة؛ بل وحرفيّة لا تتجاوز أبصارها ظواهر النّصوص، كما أنّها رُبِّيت على إساءة الظنّ بالعقل والنّظر العقليّ؛ لذا يجب أن يكون الحوار مع هذه المقولات وأصحابها مستندًا، ويهتمّ بالنّصوص قبل كلّ شيء، ويقرّر المؤلّف في شجاعة فكريّة نادرة ومواجهة لحقائق واقعيّة، وليس لأفكار مثاليّة تبتعد عن أرض الواقع، ويعترف بحقيقة تاريخيّة لا مراء فيها؛ هي أنّه من الصعب أن تخلو مجتمعاتنا من أيّة آثار لمقولات الغلوّ الدينيّ، وأنّه ليس من الطّبيعيّ أن يخلو أيّ عصر من العصور من الغلوّ الدينيّ والتطرّف([12]).

ثمّ ينطلق المؤلّف لتقييم ملامح ومعالم منهاج التّعامل الفكريّ مع هذه المقولات؛ أي الحاكميّة والجاهليّة والتّكفير، ويبدأ تحليله بمقولة الحاكميّة التي يري فيها أنّها تمثّل، ابتداء من الخوارج وفي كلّ كتابات المودوديّ، فكرًا سياسيًّا إسلاميًّا؛ أي اجتهادات إسلاميّة، لو ألزمت أصحابها لا تلزم الآخرين؛ لأنّها ليست دينًا ثابتًا، فهي فقه سياسيّ([13]).

ويلفت المؤلّف الانتباه إلى حقيقة مهمّة؛ هي أنّ احتكام الدّول والمجتمعات الإسلاميّة إلى الحاكميّة البشريّة لا يعني، بالضّرورة، رفض الحاكمية الإلهيّة، ولا يعني الارتداد إلى الجاهليّة والكفر، ثم يمضي المؤلّف في تحليل مقولة الجاهليّة، ويشير إلى أنّ ما عولِج من خلال المنهج السّابق في التّعامل مع الحاكميّة، يعد- أيضًا- منهجًا في التّعامل مع مقولة الجاهليّة، ويرى كذلك أنّه مع الدّخول إلى معالجة دعوات الجاهليّة والتّكفير من باب المعالجة للحاكميّة كجذر ومنطلق للغلوّ في كلّ الميادين الأخرى، فإنّه لا بدّ من معالجة الرّؤية الحادّة والأحكام القطعيّة الّتي اتّخذت صور فكر الإثارة بدل الدّقة الفقهيّة والموضوعيّة العلميّة([14]).

ويشير المؤلّف إلى أنّ السبيل الناجع لمواجهة هذا الغلوّ والتطرّف هو لغة الحوار، وهو فريضة إسلاميّة، وليس ترفًا فكريًّا؛ لأنّه يمثّل عنصرًا فعّالًا في معالجة الآثار المدمرة لهذه المقولات في حقل الغلوّ الدينيّ المعاصر، ويرى عمارة أنّ العقل المسلم يستطيع في هذا الحوار مع مقولات الغلوّ أن يطرح مقولات مغايرة تمامًا، ويتوصّل إلى حقيقة مهمّة تهدم كلّ دعوات الجاهليّة والتّكفير، وهي؛ أنّ حضارة أبدعت هذا الإبداع، وتميّز إبداعها وامتاز بروح التوحيد الإسلاميّ، الذي هو النقيض الرّئيس للجاهليّة، أنّها حضارة إسلاميّة أبدعها بشر مسلمون فسرت فيها روح الإسلام، ولم تبرأ من شوائب البشر؛ فهي حضارة إنسانيّة، وليست حضارة الملائكة المقرّبين، ومع ذلك لا يجب وصفها بالجاهليّة([15]).

ويقوم المؤلّف بتقديم العلاج، أيضًا، لمقولة التّكفير، ويرى ضرورة إحياء تراثنا الإسلاميّ النّاقد والرّافض للمسارعة إلى التّكفير، وللإفراط في الحكم على العقائد والضّمائر والقلوب، ويستحضر ويستشهد المؤلّف بتاريخنا الفكريّ وتراثنا الإسلاميّ، ويرى أنّ فيه من الفقه الواعي والعلم الموضوعيّ، ما يمثّل خير عون لنا في مجاوزة هذه النزعة التكفيريّة المدمّرة لنسيج الأمة، والمهدّدة لوحدتها، والتي تفضي بهذا الغلوّ إلى أن تجعل بأسنا بيننا شديد([16]).

ثمّ يواصل المؤلّف سيره، ويصل إلى تحليل المقولة الثالثة في ظاهرة الغلوّ الدينيّ، وهي مقولة الفرقة الناجية، ويشير إلى أنّ الغلاة تصوّروا الفرقة الناجية؛ أنّها جزء من ثلاثة وسبعين جزءًا من الأمّة الّتي ستفترق إلى ثلاثة وسبعين فرقة، كلّها هالكة في النّار إلّا واحدة، ويلفت الانتباه إلى أنّ هناك جماعات هامشيّة، سواء في العدد أو في الفكر، حاولت احتكار هذه النّجاة دون السّواد الأعظم لأمة الإسلام، ولقد انطلق هذا اللّون من الغلوّ، وغلوّ التّضييق من حديث افتراق الأمة، وهو حديث للرّواية فيه مقال، وللدّراية فيه مقالات([17]).

ومن وجهة نظره، رغم ضعف هذا الحديث في الرّواية؛ فقد ظلّ يقوم بدور كبير وخطير في الغلوّ الدينيّ، وفي إضفاء المشروعيّة الكاذبة على كثير من جماعات الغلاة، ويقدّم عمارة تحليلًا لما جاء في الدراية لمتن هذا الحديث، مضمونه؛ أنّ هذا الحديث من الأحاديث المتشابهة، حديث آحاد، وليس متواتر؛ فهو ظنّي الثبوت، وأحاديث الآحاد، إن جاز أن نأخذ بها في الأمور العمليّة، فإنّها غير ملزمة في العقائد([18]).

ثمّ يتطرّق المؤلّف إلى موضوعات الباب الثّاني من الكتاب، الذي جاء تحت عنوان “في الغلوّ اللّادينيّ”، ويناقش موضوعين هما: التّأويل العبثيّ، والفجور العلمانيّ.

ويوضح المؤلّف أنّ أصحاب التّأويل الماديّ العبثيّ قد استعاروا هذا العبث التأويليّ من الهيرمنيوطيقا الغربيّة، وقلّدوا فيه فلاسفة التّنوير الغربيّ الوضعيّ العلمانيّ، حذو النّعل بالنّعل، فغدا بهذا التّقليد الأعمى للغرب، لدينا نفر من المثقّفين المغتربين يطبّقون الهيرمنيوطيقا الغربيّة على القرآن والألوهيّة والنّبوة([19]).

ويتقصّى المؤلّف مقولة التأويل العبثيّ في ثقافتنا المعاصرة، وتطبيقاتها على بعض القضايا؛ مثل قضيّة الوحي، مثلًا؛ يرى أصحاب التّأويل العبثيّ أنّ الوحي هو وضع بشريّ، وليس وضعًا إلهيًّا، من هنا؛ يتوصّل المؤلّف إلى نتيجة مهمّة تتعلّق بهذا التأويل العبثيّ، هي؛ أنّه في هذا التّأويل لا توجد حقيقة موضوعيّة، ولا يوجد صواب وخطأ، كلتاهما قراءة، ولا يوجد معيار للصّواب والخطأ داخل النّصّ، ولا يوجد معنى موضوعيّ للنصّ؛ فالنصّ يتحوّل إلى مرآة تكشف قراءات العصور في ظروفها التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة([20]).

ولقد وصلت هذه الهيرمنيوطيقا إلى ذروة العبث التأويليّ في وظيفتها الأساسيّة؛ التي يراها تتمثّل في أنسنة الحضارة الإسلاميّة بتحويلها عن الإلهيّة إلى الإنسانيّة، وأنسنة الدّين الإسلاميّ بإحلال الدّين الطبيعيّ محلّ الدّين الإلهيّ.

ويرى المؤلّف([21]) أنّ الهدف الجوهريّ من التّأويل العبثيّ؛ هو إلغاء عقائد التّوحيد والبعث والجزاء، حتّى لو كانت مجرّد فكر إنسانيّ، والمطلوب في هذا التّأويل العبثيّ؛ هو إلغاء الخطاب الدينيّ بأكمله، وفي مقدّمته الألوهيّة، واستبدال الخطاب الفلسفيّ بالخطاب الدينيّ.

وبناءً على ذلك؛ نرى أنّه من خلال التأويل العبثيّ لا يتمّ إلغاء الدّين بأنسنته وتحويله إلى فكر إنسانيّ فقط؛ بل يتمّ هجاء الدّين بكلّ هذا الهجاء، وأنّ الهيرمنيوطيقا المعاصرة الّتي مثّلت استعارة الهيرمنيوطيقا الغربيّة لتطبيقها على الإسلام والوحي والله، كشفت عن الوجه القبيح للغلوّ العبثيّ في التّأويل.

ثمّ يلقي المؤلّف، بعد ذلك، الضّوء على مقولة الفجور العلمانيّ، ويشير إلى معناها في المصطلح العربيّ والإسلاميّ، ومن أهمّ معانيها: الكذب، والتّكذيب، والفسق، وشقّ ستر الدّين، ويرى أنّه إذا كانت مقالات الغلو الدينيّ قد أساءت فهم الدّين، وتنكّبت طريق الوسطيّة والتّوازن والقصد، فحكمت بالجاهليّة والكفر والضّلال على الأمّة حينًا، وعلى مجتمعاتنا ودولها في كثير من الأحايين؛ فمقالات الغلوّ اللّادينيّ هي مقالات تستّرت بالإسلام لتمارس أقصى درجات الفجور كذبًا وتكذيبًا في حقّ الإسلام؛ قرآنًا وسنّة وشريعة([22]).

ويلفت المؤلّف أنظارنا إلى أنّ هذا الفجور المستتر برداء الإسلام قد بلغ ما لم يبلغه الفجور الذي افتراه الأعداء التقليديّون للإسلام، ويشير إلى أنّ مقولات الفجور لم تقف عند حدّ الطّعن في القرآن والرّسول؛ إنّما تعدّته إلى الطّعن في جملة الإسلام عندما تزعم أنّ هذا الإسلام لم يعد الدّين الإلهيّ الذي أنزله الله؛ إنّما حدث تبدّل وتغيّر لهذا الإسلام ولشريعته، وهذا التبدّل، كما ترى مقولة الفجور، يعود إلى رسول الله ﷺ منذ أن حارب المشركين في أوّل الغزوات([23]).

أيضًا، لم يسلم الفقه الإسلاميّ الّذي هو ترجمان أحكام الشريعة من طعن مقولة الفجور، وقالت عن هذا الفقه: إنّه قد تردّى في ترخّص خطير، فأصبح فقه الحيل، حتّى صارت الحيل مرادفًا لآرائه، ومعادلًا لأفكاره، لقد انحدر وضلّ وأخطأ، وأصبح سفسطات لفظيّة، إنّه فقه الحروب والمجتمعات المضطّربة([24]).

وبعد هذا التّحليل العميق لمقولات الغلوّ الدّيني واللّادينيّ؛ نأتي إلى خاتمة الكتاب بما تحمله من مضامين توجيه وإرشاد، وتجسيد واقع الأمّة، وتقديم العلاج لهذه الظاهرة الخطيرة، وحذّرت خاتمة الكتاب من عاقبة الغلوّ الدّيني واللّادينيّ، وكيف أنّ مقولات الحاكميّة والجاهليّة والتّكفير قد تركت آثارًا ضارّة في جسد الأمّة الإسلاميّة، وجرت عليها ويلات، وكيف تغذّت الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة على أفكار هذه المقولات، وظهرت داعش وأخوتها منها، وأصبحت هذه الأفكار بمثابة معول هدم في الأمّة الإسلاميّة، وأوضح المؤلّف، في خاتمة الكتاب، أنّه من الخطر العظيم أن يتبنّي هذه الأفكار أناس من بني جلدتنا، يتحدّثون لغتنا؛ لذا يتمثّل العلاج في توجيه الشّباب إلى الأفكار المعتدلة التي تمثّل وسطيّة الإسلام، وإجراء الحوار معهم، ومع من يتبنّي هذه الأفكار.


[1]– محمد عمارة، مقالات الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ، مكتبة الشروق الدّولية، ط 1، القاهرة، 2004م، ص 8.

[2]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 12.

[3]– أبو الأعلى المودوديّ، الإسلام والمدنيّة الحديثة، طبعة القاهرة، 1978، ص 41.

[4]– محمد عمارة، مقالات في الغلوّ الدّيني واللّادينيّ، ص 20.

[5]– محمد عمارة، مقالات في الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ، ص 21.

[6]– المصدر السّابق، ص 22.

[7]– المصدر السّابق، ص 25.

-[8] سيّد قطب، معالم في الطّريق، طبعة القاهرة، 1980م، ص 103.

[9]– محمد عمارة، مقالات الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ، ص 27.

[10]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 29.

[11]– محمد عمارة، مقالات الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ، ص 30.

[12]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 31.

[13]– محمد عمارة، المرجع السّابق، ص 32.

[14] محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 34.

[15]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 39.

[16]– محمد عمارة، مقالات الغلوّ الدينيّ واللّادينيّ، ص 51.

[17]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 53.

[18]– محمد عمارة، المرجع السّابق، ص 62.

[19]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 63.

[20]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 77.

[21]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 80.

[22]– محمد عمارة، المصدر السّابق، ص 88.

[23]– محمد عمارة، المرجع السّابق، ص 93.

[24]– محمد عمارة، مقالات الغلوّ الدينيّ واللّاديني، ص 102.