لا بد ونحن نسرد التنظيمات الإسلامية التي اختارت العمل السياسي في العلن، أن نمر على حركة الإصلاح الوطني بزعامة عبد الله جاب الله التي انبثقت في أول الأمر عن “حركة النهضة الإسلامية”، والتي تأثرت بالفكر الإخواني، وتبنت منطقه واعتُبرت فرع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في الجزائر. هذه الحركة ستأخذ سنة 1990م شكل الحزب السياسي تحت اسم “حركة النهضة الإسلامية”، ثم “حزب حركة النهضة”، مع تبني الثوابت الوطنية كمرجع للعمل السياسي، وعلى رأسها الشريعة الإسلامية. غير أن مجموعة من العوامل الداخلية، ستدفع عبد الله جاب الله إلى الانفصال عن الحركة الأم، وتأسيس حزب آخر تحت اسم “حركة الإصلاح الوطني”.
ويمكن أن نسجل في هذا السياق أيضا، تأسيس حزبين سياسيين حاولا ملء الفراغ الذي أحدثه حل جبهة الإنقاذ، وهما على التوالي حركة التضامن الإسلامي الجزائري ورابطة الدعوة الإسلامية التي تزعمها أحمد سحنون.
وبالرجوع إلى نقطة البحث المتعلقة أساسا ببروز التنظيمات المتطرفة بالجزائر، ستعرف فترة الثمانينيات حدثاً بارزاً ساهم في إنتاج طبقة من “صناع الموت” تحت مصوغات الجهاد، ويتعلق الأمر بحرب أفغانستان أو ما عرف “بالجهاد الأفغاني”، والتي ستشكل إحدى تمظهرات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، حيث سيشكل “المجاهدون” الجزائريون قسما مهما من الأفغان العرب وسيساهمون، إلى جانب غيرهم، في رسم معالم النصر على المعسكر الشيوعي.
غير أن نهاية الحرب وانقلاب “المجاهدين” بعضهم ضد بعض، سيدفع العديد من “المجاهدين” الجزائريين إلى العودة إلى أوطانهم، ليجدوا صعوبة بالغة في الاندماج في المجتمع الجزائري نتيجة البطالة والتهميش والملاحقات الأمنية، إذ لم يتم التنبه لاستيعابهم اجتماعيا واقتصاديا أو رفض دخولهم البلاد سدّا للذرائع، فظلوا على الهامش وقودا قابلا للاستعمال مع اندلاع أول شرارة.
إن رسم معالم المشهد السياسي الجزائري بداية التسعينيات، سيجعل من الانتخابات التشريعية لسنة 1991م، والانقلاب على المسلسل الديمقراطي، بمثابة الشرارة الأولى لما سيطلق عليه لاحقا “بالعشرية الدموية”، والتي ستؤدي، كما سنرى، إلى المواجهة المباشرة بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ والنظام الجزائري، في البداية، لتتحول إلى مواجهة شاملة بين هذا الأخير وباقي التنظيمات الإسلامية الحركية.
ولابد أن نشير أن معالم الصدام مع النظام ظهرت إبان الحملات الانتخابية للقوى الإسلامية، حيث سبق أن تم طرح العملية الانتخابية عند الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومن يدور في فلكها على أساس أنها مواجهة بين الإسلام والكفر ورفعوا، على إثر ذلك، شعارات من قبيل “صوت للفيس، صوت ضد إبليس” و”الإسلام هو الحل” على غرار الشعارات التي تم رفعها من طرف الإخوان المسلمين في مصر.
هذا النداء الديني، كان له وقع السحر على الناخبين الجزائريين، حيث ستتمكن جبهة الإنقاذ من الحصول على ما يقرب من ثلاثة ملايين ومائتي ألف صوت في الجولة الأولى التي دارت رحاها يوم 26 دجنبر من سنة 1991م، فحصلت على 188 مقعدا من أصل 430، وكان مؤكدا أن الجبهة ستكتسح في الدور الثاني، مما كان سيعطيها أغلبية الثلثين في البرلمان، غير أن الجيش الجزائري كان له رأي آخر واستعمل لغة القوة، فكان الانقلاب المعروف الذي “أُجبر” من خلاله الشاذلي بن جديد على حل البرلمان يوم 04 يناير 1992م ليتم إجباره مرة ثانية على الاستقالة أسبوعا بعد ذلك، بتاريخ 11 يناير من نفس السنة.
إن الطريقة التي “انقلب” بها الجيش على المسلسل الديمقراطي، جعلت التنظيمات الإسلامية تشكك في جدوى العملية الديمقراطية، وبأن لا سبيل لإقامة الدولة الإسلامية إلاّ عن طريق العنف واللجوء إلى القوة التي اعتبرتها شرعية في مواجهة “المرتدين” والدعوة إلى النفير والجهاد من أجل إقامة المشروع الإسلامي، مما سيؤدي إلى تفريخ مجموعة من التنظيمات الجهادية على الساحة الجزائرية، والتي ستنتظم ضمن فصيلين أساسيين:
– الجيش الإسلامي للإنقاذ، الذراع العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ على غرار التنظيم الخاص أو الجهاز السري عند الإخوان المسلمين، والذي سيقوده مدني مزراق وعبد القادر شبوطي ومحمد سعيد مخلوفي، والذي حمل السلاح ورفض العودة للعمل السياسي معتبرا أنها غلطة لا يمكن تكرارها.
– الجماعة الإسلامية المسلحة «GIA» التي ستظهر سنة 1992 بقيادة المنصوري الملياني، والتي ستتبنى أطروحات راديكالية في مواجهة النظام الجزائري.
حاول هذان التنظيمان التنسيق ميدانياً، وتم عقد اجتماعات للتنسيق وتوحيد استراتيجية المواجهة، غير أن واقع العمل الميداني أظهر الهوة الكبيرة بين التنظيمين، ليصلا إلى الانفصال التنظيمي والاستقلالية في التحرك العسكري.
لقد كان مؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة منصوري الملياني هو من قام بتوحيد جيوب تنظيمات صغيرة، وكان من بين أهم أعضائها الأفغان العرب العائدون حديثا من أفغانستان. كما كان ملياني متأثراً بمصطفى بويعلي، حيث كان من أعضاء تنظيمه وأحد مقربيه.
يُعتبر منصوري الملياني “أمير العرب الأفغان” من أصول جزائرية الذين رأوا أن الدولة الإسلامية لا تؤسس بمنطق صناديق الاقتراع، ولا بـ”بدع” الديمقراطية والمشاركة السياسية، ولكن بمنطق القوة والعنف وما سلبه النظام بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ويمكن القول، إن “المجاهدين” الأفغان العائدون إلى الجزائر، لم يكن ينقصهم إلا زعيم أو قيادة دينية يلتفون حولها، وينهلون منها فتاوى الجهاد والمواجهة، فوجدوا، في البداية، في عبد القادر شبوطي (الجنرال) ضالتهم، لكن هذا الأخير صرفهم صرفا جميلا لارتباطه بأجندة جبهة الإنقاذ (الفيس). ومع رفض شبوطي تبنّى طرح هؤلاء العائدون من أفغانستان، سيحاولون البحث عن زعيم ثان، والذي لم يكن سوى منصوري الملياني الذي كان صديقا لشبوطي ورفيقه في السجن حين حكم عليهما بالإعدام قبل أن يخرجا من السجن، وتستمر صداقتهما.
أصبح منصوري الملياني أميراً للتنظيم الجديد، وكانت أول عملية يقوم بها هي تلك التي نفذت في شهر فبراير سنة 1992، والتي استهدفت إحدى القواعد التابعة للقوات البحرية، والتي أدت إلى مقتل عشرة جنود واثنين من منفذي العملية.
وتجدر الإشارة إلى وجود لغط ونقاش حول المؤسس الحقيقي للجماعة الإسلامية المسلحة؛ فهناك من يدفع في اتجاه أن قاري سعيد هو المؤسس الفعلي للجماعة التي تكونت أصلا من “العائدين من أفغانستان”، والبعض الآخر يرى أن الجماعة تم تفعيلها من طرف أميرها منصوري الملياني بعد الانضمام إلى مجموعة موح ليفي (محمد علال). وبذلك، تأسست الجماعة الإسلامية المسلحة سنة 1992، بعد ثمانية أشهر من اعتقال قاري سعيد. وبعد اعتقال ملياني، سيتم تنصيب نائبه أحمد الود على رأس التنظيم، ولكن سرعان ما سيتم اعتقال هذا الأخير وإيداعه سجن “سركاجي” في العاصمة الجزائر.
إن الصعوبة التي واجهتنا خلال الخوض في هذه الفترة من تاريخ الجزائر هو عدم الضبط في التأريخ وسرد الروايات، وهو السمة الغالبة على هاته الفترة، حيث لا يكاد يُجمع اثنان على تاريخ واقعة واحدة أو حدث معين لكثرة الروايات وكثرة المتدخلين وخلفية كل طرف وزاوية رؤيته للوضع. كما ساهم التعتيم الإعلامي والتضييق الفكري في استحالة رسم صورة واضحة عن تاريخ الجزائر خلال فترة ما عرف بالعشرية السوداء.
سيتعاقب على الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA) كل من:
– منصوري الملياني الذي أسس الجماعة الإسلامية المسلحة في أبريل من سنة 1992، وألقي القبض عليه للمرة الثانية في العام نفسه، وحكم عليه من جديد بالإعدام ونفذ فيه الحكم شهر يوليوز سنة 1992.
– علال محمد أو موح ليفي: تسلم الإمارة بعد “منصوري الملياني” قتلته قوات الأمن في سبتمبر من سنة 1992م مع اثنين من أعوانه بالقرب من المدية 80 كلم جنوب الجزائر العاصمة.
– عبد الحق العيايدة والملقب بأبي عدنان، تولى قيادة الجماعة من غشت 1992 وإلى غاية يوليوز 1993، هرب إلى المغرب، ليتم توقيفه وتسليمه للسلطات الجزائرية. اشتهر بفتاواه التي تقوم على تكفير جميع قادة الجزائر دون استثناء، وكل من يعمل معهم أو حتى من لم يخالفهم، كما مارس نشاطا يتوزع بين الاغتيال والتفجير. ومن خلال تفحص مضامين كلماته يبدو أنه ذو معرفة سطحية بالأمور الشرعية، وتغيب عنه الرؤية السياسية الثاقبة. مهنته في الأصل لحّام.
– عيسى بن عمار: لم يتول الإمارة سوى لفترة وجيزة خلفاً للعيايدة، حيث قتلته قوات الأمن بعد بضعة أسابيع من توليه زعامة التنظيم.
– سيدي أحمد مراد الملقب بـ “جعفر الأفغاني”، قتل برصاص الجيش الجزائري في 27 فبراير 1994م مع تسعة من أعوانه في مرتفعات جبال بني ميسرة بالبليدة.
– شريف القواسمي الملقب بـ”أبو عبد الله أحمد” قتل “قواسمي” في معركة مع قوات الأمن في ضواحي العاصمة الجزائرية يوم 26 شتنبر من سنة 1994م.
– جمال زيتوني الملقب بـ”أبو عبد الرحمان أمين”، أحد أخطر قادة “الجيا” وأكثرهم دموية. قتل صيف سنة 1996، بعدما راكم من الجرائم البشعة والاغتيالات الشنيعة كان آخرها إعدامه لسبعة رهبان فرنسيين من دير تبحرين بالمدية في مايو من سنة 1996.
– عنتر الزوابري، وهو هو عنتر بن محمد بن قاسم بن الربيع زوابري المدعو أبو طلحة، تولى إمارة الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر من سنة 1996 إلى 2002.
(يتبع)