في معنى فلسفة الدين:
عادة ما تعرّف فلسفة الدين بأنها الدراسة العقلية للمعاني والمحاكمات التي تطرحها الأسس الدينية وتفسيراتها للظواهر الطبيعية وما وراء الطبيعية، مثل الخلق والموت ووجود الخالق، بمعنى أنها التفكير الفلسفي في الدين وفروضه، وهذا ما يقصده هيجل في محاضراته حول فلسفة الدين، إذ يقول: “لقد بدا لي أنه من الضروري أن أجعل الدين بذاته موضوع النظر الفلسفي، وأن أضيف إلى هذا دراسته في شكل جزء خاص للتفلسف ككل”[1]
ويحيل مفهوم فلسفة الدين إلى معنيين: أحدهما واسع والآخر ضيق، ففلسفة الدين بالمعنى الواسع للكلمة هي مجموعة التوجهات الفلسفية، الحالية والمحتملة، فيما يخص الدين وجملة التصورات عن طبيعة الدين ووظائفه، وكذلك البراهين الفلسفية على وجود الله، والتأملات الفلسفية عن طبيعته وعن علاقته بالكون والإنسان. أما فلسفة الدين بالمعنى الضيق للكلمة، فهي تفكير فلسفي قائم بذاته وصريح عن الله والدين، ونمط خاص من التفلسف، وهي بهذا المعنى صياغة متأخرة نسبيًا ومرتبطة بشروط تكوينية، جعلت الشكل المكتمل لفلسفة الدين أمر ممكن، ولعل أبرز هذه الشروط بحسب المفكر الروسي يوري أناتوليفتش (في السياق المسيحي ) هو انفصال الدين الذي شرع يتضح باستمرار، عن المجالات الأخرى من نشاط الإنسان الروحي والأيديولوجي والعملي، وكذلك اكتساب الفلسفة استقلالاً فعلياً.
وثمة توافق عام في الأدب الفلسفي الغربي على اعتبار سبينوزا مؤسس فلسفة الدين بالمعنى المعاصر؛ فأوتو بفليدرر (Pfleiderer)، مؤرخ الفلسفة الشهير، يكتب في نهاية القرن التاسع عشر في عمله الواسع “تاريخ فلسفة الدين” ما يلي: “إن الشروط من أجل بحث فلسفي للدين غير متحامل عليه نجدها لأول مرة، وعلى وجه الإجمال، عند بينيديكت سبينوزا… لذا، فمنه نبدأ المرحلة الأولى من تاريخ فلسفة الدين، التي ينبغي أن نسميها تبعاً لموقف الفكر النقدي من الدين الوضعي مرحلة فلسفة الدين النقدية”.[2]
غير أن مصطلح “فلسفة الدين” لم يظهر في التداول الفكري الغربي إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وقد ظهر ليحل محل مصطلح الإلهيات، وهو العلم الذي يحاول فيه أصحابه أن يحللوا منطقياً حجج وجود الإله أو الله الواحد عن طريق النقاش والمجادلة، ويستخدم هذا العلم عادة لإضفاء معقولية وعقلانية على العقائد الدينية باختلافها، أو لتسهيل المقارنة بين كافة العقائد والشرائع، ويقابله في التداول الإسلامي علم الكلام.
ويمكننا، حسب جيمس كولينز (Collins J.)، أن نبرز القرن- الممتد تقريباً من عام 1730 حتى عام 1830- على أنه مرحلة تشكل النظريات الفلسفية حيال الدين. وتمتد هذه المرحلة من التأملات الباكرة لهيوم في مشكلات الدين، وحتى محاضرات هيغل الأخيرة في فلسفة الدين، وتتوسط المكان بينهما، بحسب الترتيب الزمني وبحسب الموضوع، فلسفة الدين عند كانط. إن هؤلاء الفلاسفة بالذات هم من وضع الأسس الكلاسيكية للنظريات الفلسفية المعاصرة حول الدين، وإن فهم تصوراتهم عن الدين، حسب كولينز، “يعني الإمساك بتلك اللمحات الجوهرية التي تكتسب المحاولات السابقة بالمقارنة معها توجهاً ما. أما النظريات اللاحقة، فتحصل على قاعدة فلسفية، فعند أولئك تصل فلسفة الدين إلى سن الرشد، وتحصل على مكان لها بين أقسام الفلسفة الأساسية”.[3]
وبالعودة إلى السياق العربي الإسلامي المعاصر، فإننا نسجل ملاحظة أساسية تكمن في أن مفهوم “فلسفة الدين ” ما يزال يكتنفه الغموض والضبابية، والأمر راجع إلى عوامل أهمها: الاقتصار على الترجمة المقلدة في غياب لمحاولات إبداعية تنسجم والسياق التداولي الإسلامي، وعامل آخر يرجع إلى الخلط بين فلسفة الدين وعلم الكلام، وصل إلى درجة اقتران مفهوم فلسفة الدين بما سمي بعلم الكلام الجديد، هذا الخلط تترجمه كتابات عديدة من مثقفين ومفكرين إسلاميين أغلبهم محسوب على الضفة الفارسية.
ويمكن اعتبار محمد عثمان الخشت من أوائل من ألف في اللغة العربية عن فلسفة الدين بمعناه الاصطلاحي الدقيق في أطروحته للدكتوراه “المعقول واللامعقول في الأديان بين العقلانية النقدية والعقلانية المنحازة” عام 1993، وتم طباعة هذه الأطروحة عن دار نهضة مصر 2006، وله مدخل إلى فلسفة الدين عام 1998، والدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم عام 1999.
ولا تخلو الساحة الفكرية الإسلامية من بعض المحاولات التأصيلية من أبرزها في هذا الباب، ما قدمه أبو يعرب المرزوقي في “فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي”، ففي نظره التقى في تكوين فلسفة الدين مساران:
-الأول انطلق من تطور الفكر الديني إلى أن بلغ مرحلة الرسالة الخاتمة.
-والثاني تطور الفكر الفلسفي إلى أن بلغ صيغته النسقية الأخيرة.
ففلسفة الدين هي نتاج للجدل بين مساري التفكير السالفين؛ التفكير الفلسفي، والتفكير الديني، وربما يكون هذا ما جعل هيجل يطابق بين الدين والفلسفة، ذلك أن موضوع الدين والفلسفة هو الحقيقة الخالدة في موضوعيتها(الله)، وليس شيئا غير (الله) تفسير (الله)؛ فالشيء المشترك بين الدين والفلسفة – حسب هيجل- هو أنهما دين، وما يميز الواحد عن الآخر هو مجرد نوع طريقة الدين التي نجدها في كل منهما، ففي الطريقة المتفردة التي ينشغل بها كلاهما يبرز الفرق[4].
نحن إذن، أمام نمطين من الدين: أما الأول فينتسب إلى المتعالي؛ أي أديان الوحي، والثاني ينتسب إلى الفلسفة، وكلاهما محط بحث في فلسفة الدين، ” فرغم أن فلسفة الدين من حيث هي فرع من فروع البحث الفلسفي تفترض ضمنًا أو صراحة دينًا فلسفيًا معينًا، فإنها تختلف تمام الاختلاف عنه، فهو أحد فروع موضوعها، وذلك لأن فلسفة الدين تبحث الأديان كلها بما فيها الأديان الفلسفية.”[5]
إذا كانت أزمة الدين في الغرب بمثابة مسلمة أو مقدمة ثابتة وعامة لفلسفة الدين المعاصرة، وقد تحدد موضوع هذه الأزمة في سياق المناظرات العقلية حول البنيان العقائدي، والتي دشنها سبينوزا، فإن الحديث هنا يجري على معقولية وإثبات وعقلانية ويقينية العقائد والمنظومات الدينية والتفسيرات التي يقدمها أصحابها للعالم، والأمر نفسه ينسحب على السياق الإسلامي بعد فشل المحاولات الإصلاحية في القرنيين الماضيين والركون إلى التفسيرات الباطنية التي جسدتها، وتضخم الخطاب الفقهي الدعوي المكتسح إعلاميًا، والموجة السياسية الإسلامية مع ما تعانيه من فقر نظري، ثم أخيرًا شبح الطائفية الأصولية التي تتربص بالمجتمعات العربية والإسلامية التواقة إلى التغيير، حتى أصبح هذا الأخير مغامرة لا تحمد عقباها.
بناءً على هذه المقدمة في أزمة الدين أوالمعرفة الدينية بشكل أدق، تستمد فلسفة الدين، في شقها النقدي خاصة، مشروعيتها، وذلك لأن من وظائفها ليس الدفاع عن الدين والعقائد الدينية، وإنما فتح مدايات جديدة في التفكير الديني المبني على نقد التجربة الدينية التاريخية وكشف محدوديتها، وتحرير الدين من التاريخ، وفتح المجال للإنسان في صياغة أطروحة دينية تتوافق مع الإمكان المعرفي المعاصر، ولا يتم ذلك إلا بالإفادة من العدة المنهجية والنقدية التي توفرها العلوم الإنسانية.
الأنسنة في التصور الديني الإسلامي
ما الغاية من خلق الإنسان؟ أو ما الغاية من الدين؟ إنما يرجع التساؤل عن ماهية الإنسان وماهية الدين، وكيف يؤدي الدين إلى تحريك الإمكانات في الوجود البشري؟ ثم كيف يمكن الجمع بين مقدمتين تتأس أحدهما على الاعتراف بأزمة المنظومة الدينية في المجتمع المعاصر، والثانية على أن الإنسان كائن متعالٍ وديني؟ وما هي الكمالات الإنسانية التي يمكن أن يبلغها الإنسان؟ وما هو المرتقب والمتوقع من الدين أن يقدمه لحركة التكامل الإنساني؟ هذه الأسئلة ككثير من غيرها، تضعنا أمام حاجة بشرية يعبر عنها بنزوع ديني، وبلغة وعقل فلسفيين.[6]
تتأسس كينونة الإنسان في التصور الديني على الإيمان بفكرة “وجود الله”، والقول بأن لهذا الكون خالق يتصف بصفات الكمال والقدرة المطلقة، هذه الفكرة مركزية في قيام الاجتماع البشري، وهي النواة التي تتأسس عليها ماهية الإنسان بحسب التصور الديني، ويوضح هيجل هذه القضية بقوله ” إنه بفضل أن الإنسان روح يكون الإنسان إنسانًا، ومن الإنسان باعتباره روحًا تنطلق التطورات العديدة للعلوم والفنون ومصالح الحياة السياسية، وكل تلك الظروف التي لها صلة بحرية الإنسان وإرادته. لكن كل هذه الأشكال المتكشفة للعلاقات الإنسانية وأوجه النشاط والملذات وكل الطرق التي تتشابك فيها الأمور وكل ما يسعى إليه لسعادته وعظمته، يجد محوره الأقصى في الدين وفي الفكر وفي الوعي والشعور (بالله). ومن ثم، فإن (الله) هو بداية كل الأشياء وخاتمة كل الأشياء. ولما كانت كل الأشياء تنطلق من هذه النقطة، فإن الكل يرتد إليها ثانية.[7]
وهذا الجوهر الإنساني يعبر عنه في لغة القرآن بالكدح “ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه” (الانشقاق 6) ؛ فبالرجوع إلى كتاب الإسلام الأول القرآن الكريم، نجده يعرض الذات الإنسانية أمام عين الإنسان وبصيرته ليعرف نفسه ويعرف نوعية إمكاناته التي فطر عليها، وأبعاد هذه الإمكانات، وهذا هو لباب الموقف الوجودي الذي يجب أن يتخذه الإنسان من ذاته، فيصطنع منها موضوعًا يتفحصه ويحلله بعقله، ومن ثم تصبح معرفته بذاته معرفة إيجابية تسهم في فهم الوجود وتعينه على فهم غيره وتصحح مساره في نفس الآن.[8]
وتتضح معالم هذه الفلسفة بدءًا من اللغة الموظفة في التعبير القرآني؛ فالمجال الدلالي القرآني ثري جدًا، فإذا كانت اللغة الفرنسية تقتصر على لفظة Homme، فإن للعربية لفظة رجل التي تقابلها لفظة امرأة، ولفظة بشر التي اشتقت منها بشرية، وكذلك عباد بمعنى عباد الله، وملة بمعنى مجموعة، وتضاف هذه الألفاظ إلى ناس وإنسان، وكلها تحتاج إلى مقاربة منهجية[9] ولسانية تستحضر خصوصية الخطاب القرآني و بنيته المعرفية اللغوية.
وقد عرض القرآن الكريم للإنسان بكافة أبعاده وجوانبه وذكره في كثير من سوره وآياته، بل إن الإنسان يعد محور الموضوعات في القرآن الكريم ومركزها لعلاقاته المتنوعة مع الموجودات، وكونه المخلوق الوحيد الذي يملك الوعي والتفكير ويفهم الخطاب الرباني، وهذه العلاقات المتعددة تتمثل في:
1.علاقة الإنسان بالله.
2.علاقة الإنسان بنفسه.
3.علاقة الإنسان بأخيه.
4.علاقة الإنسان بالطبيعة.
ولذلك جاء القرآن الكريم مخاطبًا الإنسان وفق هذه العلاقات المتنوعة[10]. يقول الدكتور فرح موسى: “إن إمعان النظر في آيات الكتاب المجيد وفيما خص به الإنسان من آيات سواء من حيث النشأة والكينونة، أو من حيث التحقق والصيرورة، لابد أن يظهر له حقيقة ما لهذا الإنسان خصوصية في عالم المخلوقات”[11]، إنها الخصوصية التي ارتقى بها الإنسان إلى مقام الخلافة، والقيام بوظيفة العمران الحضاري، وهي وظيفة تستلزم الحرية كشرط يلزم من وجوده العمران ومن عدمه؛ أي الخراب في الأرض، كما تستلزم معرفة الإنسان بإمكاناته، فلا حضارة بغير أن يكون الإنسان على بينة من إمكاناته الفطرية، مستثمرًا إياها لتحقيق وجوده الذاتي من ناحية، وتأصيل مجتمعه من ناحية أخرى، ولا حضارة بغير العلم والتجربة والفكر.
إن الوجود الحضاري أو الوجود الإنساني بعامة هو أمانة الإنسان التي حملها بجسارة ومخاطرة حين عرضها عليه الخالق، لذلك نجد القرآن يقرر أن الحرية هي الأساس في قبول هذه الأمانة و أن لبابها هو الفكر، فكأن إرادة الفكر وفكر الإرادة هي الوجود الإنساني بعينه، فمن عطل الإرادة فكأنما أعطب الفكر، و من أعطب الفكر، فكأنما اعتقل الإرادة و أبعدها عن سواء السبيل.
لذلك جاء القرآن بما هو عماد الوجود الإنساني أو بما هو لباب الحياة الإنسانية. لقد جاء بإرادة الفكر وفكر الإرادة، وجاء في الفكر والحرية على منهاج يقوم على التواصل أو التكامل العضوي،كما أنه كشف عن أهم الأخطار أو الآفات التي تهدد الفكر والحرية وعالجها وهي أربع آفات:
1.عبودية الشهوات.
2.عبودية السلف.
3.عبودية القوة.
4.عبودية الظواهر المادية أو العلم المادي.[12]
إن فلسفة الإنسان في الإسلام ترتكز على أن الإنسان موجود ذو بعدين، ويجب أن يكون له دين ذو بعدين أيضًا، حتى يتمكن من تغدية كلا البعدين المتضادين، تغدية المجتمع الإنساني وروح الإنسان، وحتى يتمكن من العيش بشكل متوازن ومتعادل[13]. هذا هو مرتكز التصور الديني التوحيدي لما يمكن تسميه بالأنسنة الإسلامية التي تحتاج إلى تأصيل نظري وفق هذه الأسس القرآنية، الأمر الذي غاب عن تراثنا حسب ما انتهى إليه حسن حنفي، إذ يقول:” إذا أردنا أن نبحث عن أنفسنا ووجودنا في تراثنا القديم، فإننا لن نجدها، وهذا ما أدى إلى حدوث الأزمة، أزمة فقدان النفس. ويزيد الطينة بلة أننا نعيش في عصر يتكاثر فيه الحديث عن حضارة الإنسان، فننحو بأنفسنا نحو هذا الحديث لعلنا نجدها فيه، و يزداد انفصامنا عن القديم وانحرافنا عن الغريب، فحتى لو حضر الإنسان في تراثنا، فإنه كان مغلفًا بمئات من الأغلفة اللغوية والعقائدية والإلهية والتشريعية، كما يرى حنفي أن المحدثين والمعاصرين من العرب والمسلمين لم تتجاوز اجتهاداتهم سقف الأطروحات الغربية حول الإنسان.
غير أن ما ذهب إليه حنفي بالرغم من مصداقيته إلا أنه لا يخلو من مبالغة؛ فقد قدم محمد أركون بحثًا قيمًا في هذا الباب حصل به على شهادة الدكتوراه في جامعة السربون، سعى فيها إلى البرهنة على وجود نزعة إنسانية عرفها الفكر العربي والإسلامي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، نشأت بعد استلهام التراث الفلسفي الإغريقي. فدراسة الأدبيات الفلسفية للقرن الرابع الهجري، تتيح لنا كما يقول أركون أن نتأكد من وجود نزعة فكرية متركزة حول الإنسان في المجال العربي والإسلامي، وهذا ما يدعوه أركون بالأنسية العربية، بمعنى أنه وجد في ذلك العصر السحيق تيار فكري يهتم بالإنسان، وليس فقط بالله. وكل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله، حسب رأي أركون، يعتبر تياراً إنسياً أو عقلانياً.[14]
ومن المحاولات التأصيلية النادرة محاولة الدكتور علي شريعتي الذي تطرق لهذه القضية في محاضرة معروفة له، نشرت بعنوان “الإنسان في الإسلام”، شرح في مفتتحها منطلقه في الحديث، والذي جاء ردًا على موقف الحضارة الغربية المعاصرة التي حاولت أن تميز رؤيتها للإنسان عن رؤية باقي الديانات الكبرى التي عرفها المجتمع الإنساني، وللتشكيك في رؤية هذه الديانات، بقصد تفكيكها وانزياحها، وحتى الإطاحة بها. ورداً على هذا الموقف عد الدكتور شريعتي قضية الإنسان وموقف الإسلام منها مهمين للغاية، فنحن نسمع -كما يقول- في العديد من الأوساط بأن الحضارة المعاصرة تقوم على النزعة الإنسانية، وتعد الإنسان أساس بنائها وهدفها، بينما كانت الأديان والمذاهب القديمة في تصورها، تحطم شخصية الإنسان، وجعلتها قرباناً للآلهة، كما اعتبرت الإنسان عاجزاً أمام الله، ومخلوقاً مسلوب الإرادة، يلتمس من الله تلبية مطالبه عن طريق الدعاء والابتهال. أما النزعة الإنسانية، فقد أصبحت مذهباً تقدمياً وعصرياً، وذلك منذ عصر النهضة في أوروبا.
وفي مقابل هذه الرؤية، ورداً عليها، يرى شريعتي أن هدفه هو شرح موقف الإسلام من الإنسان، ليرى حسب قوله، هل من الصحيح أن يسحب على الإسلام أحكامًا وتقييمات متعلقة بأديان أخرى وظروف أخرى؟ وهل صحيح القول بأن الإسلام لا ينطلق من كون الإنسان أصلاً وأساساً لحركته، ويعتبره مخلوقاً عاجزاً أمام الله؟ وهل الإيمان بالإسلام يعني القبول بسلبية الإنسان وإلغاء دوره؟ أم أن الإيمان بالإسلام والانتماء إليه، يعني إعادة الإنسان إلى أصالته، ويعني كذلك اعترافاً بإرادتها وفضائله؟ وهذا ما حاول شريعتي تأكيده، والانتصار له.
وفي هذا السياق أيضًا، تبرز مجهودات عبد الوهاب المسيري، وكانت آخر دراساته تنصب في هذا الإطار؛ فقد أشرف على دراسات عديدة أهمها الكتاب المعنون بـ” رحابة الإنسانية والإيمان”، يقول في مقدمته: لا يحفظ للإنسان إنسانيته سوى الإيمان بإله متجاوز مفارق للطبيعة، فوجوده هو ضمان إنسانية الإنسان، وهو ما يعني أنه يوجد داخل الإنسان ذلك النور أو القبس الإلهي الذي يميزه عن الكائنات الطبيعية المادية الأخرى، ويدفعه دائمًا للتسامي لربط كل فعل دنيوي بالمطلق بما يضفي عليه الدلالة والمعنى والقيمة.[15]
فالمعنى هنا يقول الباحث عبد الله هداري يتصف بمميّزات تجعله أوّلاً معنى يستحق العناء، ويستحق أن يكون قيمة مضافة لحياة الكائن؛ فالمعنى المقصود ذلك الذي يجعلك تعي قيمة الإنسان فيك، وتعي ارتباطك بـ”أناك” وبالآخرين، واندماجك في العالم كما انفصالك عنه. لهذا، فالمعنى هنا رديف قيمتك الإنسانيّة بجميع أبعادها الرّحبة. كما أن المعنى فاتحتك على الوعي بقيمة الحقيقة في ارتباطها بك؛ أي مسؤوليتنا في تصويرها وإخراجها للعالم متجاورة وحقائق أخرى كثيرة. لذلك، فالمعنى في اعتقادنا دافع لاعتبار الحقيقة/المعرفة صلتنا الإيجابيّة بالعالم من حيث الإقبال عليه كمعنى يستحق بذل الجهد في كشفه والبحث عن كنهه.[16]
*د. عبد الله إدالكوس باحث مغربي
المراجع:
1-فريدريك هيجل ، “محاضرات في فلسفة الدين”، ص 23
2-Pfleiderer O. Geschichte der Religionsphilosophie. Berlin, 1893. S. 30
3- Collins J. The Emergence of Philosophy Religion. New Haven; L., 1967. P. 8 نقلا عن” فلسفة الدين الغربية المعاصرة “يوري أناتوليفيتش، ترجمة هيثم صعب ص 10( بحث مرقون)
4-يعرب المرزوقي، ” فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي”، دار الهادي، طبعة أولى، 2006.
5-فريدريك هيجل، محاضرات في فلسفة الدين، مرجع سابق ص 50.
6-أبو يعرب المرزوقي، ” فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي”، دار الهادي، طبعة أولى، 2006، ص 44.
7-شفيق جرادي، “مقاربات منهجية في فلسفة الدين” معهد الدراسات الحكمية، الطبعة الأولى 2004، ص 35
8-فريديرك هيجل، “الأعمال الكاملة : محاضرات في فلسفة الدين”، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، ص 23.
9-محمد عبد الواحد حجازي، ” الحرية في القرآن الكريم”، دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر، ط1 1998، ص 14.
10-عبد الوهاب بوحدية، “الإنسان في الإسلام”، دار الجنوب للنشر، تونس، 2007، ص 15.
11-رائد جبار كاظم، ” الإنسان في الفكر العربي والإسلامي المعاصر: محمد باقر الصدر نموذجًا” بيت الحكمة، بغداد، ص 46/47.
12-فرح موسى، ” الإنسان و الحضارة في القرآن الكريم”، دار الهادي، ط1 2003، ص 27.
13-محمد عبد الواحد حجازي، “الحرية في القرآن”، ص 14.
14-علي ش ريعتي “الإنسان والإسلام” ترجمة: عباس الترجمان، دار الأمير، الطبعة الثانية، 2007، ص 29.
15-زكي ميلاد، ” الفكر الإسلامي والنزعة الإنسية”، مجلة التفاهم، العدد 24.
16-عبد الوهاب المسيري، “رحابة الإنسانية والإيمان”، دار الشروق، الطبعة أولى، 2012، ص 9.
17-عبد الله هداري، “الدين وإنتاج المعنى”، مجلة الأوان، استرجعت بتاريخ 19 أبريل 2013، الرابط: http://www.alawan.org/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%91%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC.html