حرّيّة الفنّ، الحرّيّة في الفنّ: بين الجماليّات والسياسة

حرّيّة الفنّ، الحرّيّة في الفنّ:

بين الجماليّات والسياسة([1])

سننبّه منذ البدء إلى أنّنا لن نتحدّث عن الفنّ عموماً، مع أنّ موضوعنا الحصري لن يتفادى القضايا المشتركة والأبعاد المتقاطعة بين كافة الفنون، بقدر ما سيحصر اهتمامه بالفنون البصريّة. فهذا الأمر سيجعلنا نتفادى كلّ تعميم مجحف وكلّ تخصيص قسري، وسيمكّننا هذا الأمر من الانطلاق من جماليّات الصورة حصراً لا من جماليّات عموميّة قد تنطبق على مجموع الممارسات الفنيّة.

يتمثل تاريخ الفنّ العربي في ثلاث “ثورات تحرّريّة”:

– تتعلّق الأولى بممارسة التصوير والتحرّر من العماء البصري لاسترداد البصر، باعتباره مكوّناً أساساً في الممارسة الفنيّة والوجوديّة؛

– وتتعلّق الثانية بالعودة إلى التراث البصري الإسلامي والأمازيغي (تجريد وخطّ وعلامات) لبناء حداثة بصريّة ذات هويّة محليّة وعالميّة في الآن نفسه؛

– وتتعلّق الثالثة بالتحرّر من إسار اللوحة وتحرير الفنّ من الصباغة والسند التقليدي ليغدو فنّاً فضائيّاً وتعدّديّاً بامتياز.

ميتافيزيقا الصورة في الوعي الإسلامي

هل يمكننا تناول موضوع كهذا من دون أن نتفادى طرق علاقة الإسلام بالصورة؟ فالأساس الذي انبنت عليه الصورة في الوعي الإسلامي هو التحريم، بالرغم من أنّ الصورة كما حلّلنا ذلك في سياق سابق خرجت من الباب لتعود إلى العالم الإسلامي من النافذة[2]، ومنذ البدء، وبالرغم من أنّ قضيّة تحريم التصوير قد تمّ تناولها في الفقه الإسلامي من باب التشريع النافي للتشبيه ولمضاهاة الخلق الإلهي، إلّا أنّ فهم تعقدها العميق لا يمكن تحقيقه في منظورنا إلّا من باب فينومينولوجي، يربط التحريم الشرعي بمفارقة الإدراك الجمالي. وليس من باب المصادفة أن يكون التصوير الوحيد الذي تمّ قبوله في ما بعد صدر الإسلام هو التصوير بالخطّ، أو الخطّ باعتباره تصويراً. ومن ثمّ فإنّ هذا الاختزال للتصوير في الخطّ يرتبط بقداسة اللغة؛ ممّا جعل فنّ الخطّ يغزو المعمار ويصير الصورة الإسلاميّة بامتياز. ولعلّ هذا الأمر هو ما جعل مفكّراً من قبيل الخطيبي[3] يعتبر الحضارة الإسلاميّة حضارة العلامة وقد غدت صورة. أمّا منمنمات الحريري، فإنّها جاءت في وقت امتزجت فيه الآثار الفارسيّة والهنديّة المعروفة بهذا الفنّ بالآثار العربيّة المنكرة للتصوير فتحلَّل بذلك التشدّد في إنكار التصوير وخلق فجوات لم تجعل مع ذلك من هذا الفنّ فنّاً معتمداً في الحياة الثقافيّة.

لنتناولْ هذا التحريم من باب الحرّيّة الآن، ولنعترفْ بأنّه عرف تقريباً ما عرفه مفهوم التصوير. فتقييد التصوير، إذا كان قد ارتبط بالشِّرْك، أي بتقاسم الخلق مع الخالق، وبقدرة المصوّر على خلق ما يمكن أن يأخذ مكان الربّ، فإنّ تقييد الحرّيّة نفسها قد عرف مسيراً يحرّر الإنسان من الوثنيّة ليربطه بإله واحد، ويحرّره من التصوير العيني ليربطه بالصورة المجرّدة الذهنيّة، ويحرّر العبيد ليصبحوا سواسية مع الآخرين في عبادة الله. لهذا حين نتصفّح ما يكتب عن الحرّيّة في الإسلام، فإنّ مفهوم الرقّ والعبوديّة يأخذ الحصّة الكبرى، لأنّ “الفقهاء” يجدون أنفسهم في مأزق أمام تراكم الأدب الذي يحدّد حياة المسلم من الصبح إلى اللّيل، في النوم كما في اليقظة، في البيت كما في المسجد، وفي الفضاء الخاص كما في الفضاء العام[4]. بل إنّ أغلب هذه الأدبيّات التي تبتغي منازلة مفهوم الحرّيّة الغربي لا تتطرّق، ولو من باب التأريخ، لمفهوم المعتزلة في الاختيار وخلق الإنسان لأفعاله.

إذا كان مفهوم الحرّيّة في الوعي الإسلامي محجوزاً، فما بالك بالحرّيّة في الخلق والإبداع؟

ليس من باب المصادفة أن يكون “تحليل” التصوير قد جاء في فترة طرحت فيها في الوعي الإسلامي الحديث (مع الأفغاني ومحمّد عبده بالأخصّ) قضايا الحرّيّة والاستبداد، ممّا يمنح لحرّيّة التصوير (من الناحية الشرعيّة) بُعداً جديداً قد يؤسّس لتحريره من الأبعاد التي ارتبطت به. إنّه تحرير لاعتقال الصورة في مفهوم التشبيه والإشراك، ومن ثمّ لحصرها في مفهومها الميتافيزيقي والمقدّس فقط. وكما جاء لي في بحث سابق، أنّ التصوير في بلدان منكرة له وممارسته بشكل أو بآخر بالعلاقة مع التحوّلات الثقافيّة التي عرفتها البلدان العربيّة، يُعتبر مؤشّراً كبيراً على دخول العرب في الحداثة بل بداية الخروج من ميتافيزيقا الألوهة للدخول في سياسة ولادة الفرد والذات sujet[5]. ما معنى ذلك؟

يشكّل تحليل التصوير وإباحته في عصر النهضة، بشكل ما، “تشريعاً” لولادة الفرد باعتباره كائناً لا يضاهي الفرد في وجوده بقدر ما يضمن كينونته في الدنيا. كما أنّه تمكين له من إحدى الحواسّ الخمس التي كانت تُعتبر من أخسّ الحواس، لارتباطها بالشهوة واللّذة، وتفكيكاً لثنائيّة البصر والبصيرة التي كانت وراء مفهوم الإيمان والعبادة. ففنّ التصوير والتشكيل يفترض العين والبصر أوّلاً قبل أن يؤدّي إدراكه إلى إعمال البصيرة والتأويل. إنّ هذه الضرورة الترابطيّة بين البصر والتصوير قد صارت مع الحداثة متّصلة بالذات الإنسانيّة لا بالذات الإلهيّة. من ثمّ فالتمييز بين البُعد المقدّس والميتافيزيقي للتصوير (باعتباره ظاهرة أنثربولوجيّة متّصلة بالمقدّس وبالشعوب البدائيّة) والتصوير باعتباره ممارسة فرديّة ذاتيّة، هو ما سيمكّن العرب من دخول الحداثة، بالموازاة مع تملّك التقنية والتواصل مع مظاهر الحداثة الأخرى الغربيّة. وليس من قبيل المصادفة أن يكون تملّك صناعة الصور وتملّك التقنية أمرين متزامنين (تجربة صناعة السلاح في مصر والمغرب في نهاية القرن الثامن عشر)، بل أن تكون دهشة الرحّالة العرب والمغاربة تتّصل بالتقنية وبالتصوير معاً، مع الفارق في درجة القبول[6].

إنّ حرّيّة الفنّ تبدأ أوّلاً من الإقرار بوجود الصورة والاعتراف بمشروعيّتها. وإذا كان مفهوم الحرّيّة فكريّاً وفلسفيّاً ذا طابع كوني، فإنّ العرب وجدت نفسها، وما تزال لحدّ اليوم، تصارع من أجل إقرار حرّيّة التصوير إقراراً بلا رجعة، وفصله عن الدين، كما يلزم فصل السياسة وشؤونها، من ثمّ فإنّ حرّيّة الفنّ من هذا الجانب ذات بُعد تاريخي وسياسي واضح.

وحين يتمّ الإقرار بهذه الحرّيّة في حرفيّتها ومجازيتها، يتأسّس الفن باعتباره ممارسة للتصوير له أسسه وقواعده وحدوده وآفاقه وأخلاقيّاته وأبعاده. ومن ثمّ فإنّ حرّيّة ممارسة التصوير وإنتاج الصور هي بالأساس تحرير للفنّ البصري من سطوة المرجعيّة الفقهيّة، مهما كان انفتاحها، وزرع له في قلب التاريخ الحديث باعتباره ممارسة إنسانيّة حاضرة لا تمسّ أبداً بقدرة الخالق على الخلق وإبداع الصور. وهذه الحرّيّة تعني أنّ أنواع التصوير (كما يفصّل فيها الفقهاء)، ممّا له ظلّ وممّا ليس له ظلّ، وممّا هو مجسّم وذو روح وغير ذلك من التفريعات بأجمعها تدخل في مفهوم الفنّ، وأنّ الحكم عليها لا يمكن أن يكون شرعيّاً أو سياسيّاً وإنّما هو شأن جمالي. ليس ثمّة إذن من مضاهاة، لأنّ خلق الصور الفنيّة لا يمسّ أبداً قدرة الخالق بل هو أمر يدخل في باب التواصل الجمالي والمتعة الفنيّة والتعبير الوجودي. ولا أدلّ على ذلك من أنّ الخلق الإلهي هو ضرورة إراديّة محايثة للألوهة عبّر عنها ابن عربي بالحديث القدسي: “كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أعرف”[7]. فخلق الصور (أي الكائنات الإنسانيّة) أمر محسوس وحيّ وحيوي. أمّا الممارسة التصويريّة الإنسانيّة، فإنّ حرّيتها تقوم، كما يعبّر عن ذلك هانس غادامر، بارتباط الفنّ بالمقدّس وباللعب في الآن نفسه.

تمكّن الحداثة البصريّة إذن من بلورة تصوّر للحرّيّة مرتبط بالفرد وبمسؤوليّاته الأخلاقيّاتيّة (الإيتيقيّة) التي تجعل من الفنّ مساهماً في توسيع حرّيّة الفرد في علاقته بالشرط الإنساني. فتفكيك ثنائيّة البصر والبصيرة التي أرساها الإسلام، وتحرير البصر ليغدو مكوّناً للحياة الشخصيّة والجماليّة، هو إعلان لولادة الذات والفرد كمكوّن أساس في خريطة الوجود. فالحسّ الجماليّ لا يمكن أن يوجد إلّا بالفرد ومن خلاله، وهي ولادة توسّع من قدرات الفرد على الحياة والتعبير بحرّيّة لا تحدّ من حرّيّة الخالق، بقدر ما تؤكّدها حتى وهي تنتقدها أو تسائل شروطها.

من ناحية أخرى، تشكّل الذات (sujet) موطناً للهويّة. إنّها هويّة لا تقوم على “الهُو” أي الغائب، وإنّما على حضور الذات لفرديّتها. فتوقيع الفنّان للوحته مثلاً يشكّل الطابع الرمزي الذي من خلاله يتحرّر الفرد من هلاميّته ويمتلك إبداعه باعتباره دالّاً على وجوده. إنّ هذه العلاقة الرمزيّة مع اللوحة أو العمل الفني، إن كانت تشرط الفنان وتجعله موجوداً في عمله الفنّي، فهي تحرّره من كلّ محاكاة للخلق الإلهي، وتضعه في موازاة هذا الخلق، يتقاطع معه من غير أن يأخذ مكانه.

جماعة الفنّ والحرّيّة وأسئلة التاريخ

منذ سنتين أقام الصديق الناقد ومنظّم المعارض، اللبناني الأمريكي سام بردويل، معرضاً في مركز جورج بومبيدو بباريس خصّصه لمجموعة الفنّ والحرّيّة التي ظهرت عام 1938بمصر، قبيل الحرب العالميّة الثانية. وقد تكوّنت الجماعة معارضة لجمعيّة محبّي الفنون الجميلة وكلّ الفنّانين “الرسميين” الذين ارتبطوا بعلاقة وثيقة مع النظام الحاكم آنذاك، والذين روّجوا كثيراً لصور نمطيّة عن مصر. وعارضت الجماعة كذلك الكثير من الاتجاهات الفاشيّة والقوميّة في ذلك الوقت وأدانت بقوّة الحرب العالميّة الثانية. هكذا اجتمع ثلّة من الفنّانين والنقّاد حول الفنّان جورج حنين، صديق الكاتب السوريالي الفرنسي أندري بروتو، وأصدروا البيان التأسيسي لجماعة الفنّ والحرّيّة الذي حمل عنوان “يحيا الفنّ المنحطّ” في 22 ديسمبر 1938، بحيث منحت جماعة “الفنّ والحرّيّة” لجيل حيويّ من الفنّانين والمفكّرين منصة للتعبير تُعنى بالإصلاح الثقافي والسياسي.

إنّ الطبيعة العالميّة “الكوزموبوليتيكيّة” التي كانت تميّز المجتمع المصري حينذاك أسهمت في لعب جماعة “الفنّ والحرّيّة” دوراً فعّالاً ضمن شبكة من الفنّانين والكتّاب السورياليّين، لبناء لغة بصريّة وأدبيّة معاصرة ذات مدى عالمي بقدر رسوخها محليّاً. وقد تضمّنت الجماعة مصريين وغير مصريين، نشطاء سياسيين ولاجئين، مسلمين ومسيحيين ويهوداً وعلمانيين، ومواطنين من طبقات اجتماعيّة مختلفة، كما اتخذت الجماعة موقفاً نسويّاً قويّاً مؤيّداً للمساواة بين الجنسين ومناهضاً لاضطهاد المرأة.

بهذا المعنى يغدو الفنّ موطناً ووسيلة لممارسة حرّيته، في داخل العمل الفنّي، ليكون ذلك أساساً لمختلف الأبعاد الأخرى المتعلّقة بالحرّيّة، بوصفها قيمةً وعملاً، أي باعتبارها جوهر الكيان الإنساني. ألم يقل أندري بروتون: “كلمة الحرّيّة وحدها ما زالت تثير حماسي اليوم، فأنا أعتقد أنّها أهل لكي تُحافظ بشكل دائم على الاستيهام الإنساني القديم”؟ وهو ما يعني أنّ مفهوم الإنسان ينهض على مفهوم الحرّيّة باعتباره حلماً وموقفاً وغايةً. إنّ لفظ الاستيهام هنا يحيل بالأساس إلى تموقع مفهوم الحرّيّة بين الكون والفعل، والخفاء والتجلّي، والمبدأ والغاية.

لكنّ السؤال الذي تطرحه علينا جماعة الفنّ والحرّيّة اليوم، هو كونها حركة طلائعيّة، استطاعت في فترة حرجة من التاريخ العربي والعالمي أن تطرح مسألة الحرّيّة بكافة أبعادها، سواء في اختيار السورياليّة نهجاً إبداعيّاً أو في الانفتاح على القضايا السياسيّة والاجتماعيّة لتلك المرحلة. ولنقرّ بأنّ السورياليّة كانت حينها اختياراً فكريّاً وثقافيّاً يمنح للفنّ أفقاً شاسعاً في التعامل مع الواقع من خلال خلخلة النظرة الواقعيّة وطابعها التبسيطي، من ناحية، ومن خلال خلخلة مفهوم “الفنون الجميلة” ومن خلاله مفهوم الجمال نفسه، من ناحية أخرى. إنّه منفتح مهمّ سوف يكون أساساً في بلورة جماليّات جديدة تشكّل مجاوزة لثنائيّة الجميل والبشع[8]، ولثنائيّة الحلم والواقع.

والحقيقة أنّ هذا البُعد العالمي الذي منحته جماعة “الفنّ والحرّيّة” للفنّ العربي، وإن كان اعتبر حينها تعميماً للجماليّات الغربيّة، إلّا أنّه في سياقه الخاصّ آنذاك يُعتبر ثورة فتحت الفنّ العربي على مآلاته الكونيّة. فالتصوّر الفنّي والجمالي الذي تبنّته تلك الجماعة كان يحمل في الآن نفسه تمرّداً على ركود الإبداع والفكر في العالم العربي. ولنذكّر أيضاً بأنّ مفهوم الحرّيّة ظلّ يخترق الفكر والفلسفة الغربيين من السورياليّة إلى الوجوديّة. فجان بول سارتر كان يعتبر الحرّيّة انغماساً في العالم للفعل فيه:

“لا يمكن للوجود إلّا أن يتفتق عن الوجود، وإذا كان الإنسان مندرجاً في سيرورة التوالد هذه، فلن يصدر عنه غير الوجود…، مع ذلك، فإنّ “الواقع الإنساني” لا يملك إمكان الإعدام، ولو مؤقتاً، لكتلة الوجود المطروحة أمامه، فما يمكنها تحويره هو علاقتها بهذا الوجود. فبالنسبة إليه، أن يتمّ عزل كائن خاص، يعني أن يعزل ذلك الواقع الإنساني نفسه بالعلاقة مع ذلك الكائن. وفي هذه الحالة فهو ينفلت منه، ويغدو بعيداً عن مرماه، ولا يمكنه الفعل فيه، بحيث إنّه ينسحب فيما وراء عدمٍ ما. إنّ هذه الإمكانيّة لدى الواقع الإنساني في فرز عدم ما يعزله، منحه ديكارت، بعد الرواقيين اسماً: إنّه الحرّيّة”[9]. بيد أنّ هذا المفهوم للحريّة الذي اخترق الفلسفة الغربيّة يمكّننا من القول: نعم إنّها الحرّيّة الفرديّة في خلوتها وانعزالها. وهي ضروريّة لخلق الفرد الواعي، غير أنّها لا تكتمل لدى سارتر إلّا بحرّيّة أوسع هي الالتزام، أي حرّيّة البُعد الإنساني العام.

من هنا يبدو كيف أنّ الفنّ العربي، ومن خلال هذا الارتباط الكبير بحركيّة الفكر والفنّ الغربيين، كان يحمل شرارة العالميّة، من خلال مفهوم كونيّ هو الحرّيّة، وأنّ هذه الحرّيّة شاملة، في الفكر كما في الفنّ، في الفعل كما في التصوّر، في العمل الفني كما في ذات الفنّان.

حرّيّة الفنّ أم الحرّيّة في الفنّ؟

حين بدأتُ بطرح موقع التصوير والصورة في الوعي الإسلامي، فذلك لأخلص إلى أنّ هذا الخوف من الصورة الذي وسم بدايات تكوّن الوعي الإسلامي، وبالرغم من مرور أكثر من قرن من الزمن على تطوّر فنون التصوير في العالم العربي، بدأ يعود وبشكل حثيث في مطالع القرن الحادي والعشرين. فبعد عقود متوالية عرفت فيها الفنون عموماً قدراً كبيراً من حرّيّة التعبير، من السينما إلى الفنّ التشكيلي، مروراً بالغناء، وبعد الانحسار الذي عرفته حركات التنوير بجميع أشكالها، صارت الرقابة الإسلامويّة ومعها الرقابة الذاتيّة تضرب أطنابها لتحجّم قرناً كاملاً عرف فيه الفنّ العربي الكثير من الحرّيّة ومن هوامش النقد والمواجهة.

وهكذا ما يزال ثالوث بوعلي ياسين المحرّم يحمل راهنيته. بل لنقل إنّ هذا الثالوث المحرّم قد تعزّز أكثر مع العودة العارمة للمقدّس في المجتمعات العربيّة المعاصرة في العقود الأخيرة، بعد انحسار المدّ القومي والعلماني. فإذا كان الفنّ الفلسطيني طيلة عقود عديدة، ومعه تجارب عديدة في الفنّ العربي، قد جعل من تحرير فلسطين حلماً كبيراً أسقطه أحياناً في التعبيريّة المباشرة وأخرى في البلاغة الجماليّة الواضحة، فإنّ هذا المنزع ظلّ موازياً لتجريب فنّي عربي بات مهموماً بالتحرّر الجمالي الداخلي من إسار الفنّ الغربي وتقاليده.

وإذا كانت جماعة الفنّ والحرّيّة قد مارست الحلم باعتباره ممارسة فنيّة ووجوديّة (كما لدى أندري بروتون)، فإنّ أحد أبعاد ثورتها يتمثل في مجاوزة الواقعيّة من جهة، والتجريد الهندسي الذي طبع الفنون الإسلاميّة من جهة أخرى. وتلكم هي الأسس التي ستنبني عليها حداثة الفنّ العربي، والتي سوف تسلك سبلاً متعدّدة، غير أنّ أغلبها سوف يمزج بين استعادة مكوّنات الصورة والعلامة في التراث العربي (وتراث الأقليّات) والمحلّي الإسلامي لبناء تصوير عربي جديد.

ففي العراق، كما في مصر ولبنان وتونس والجزائر والمغرب، سوف تكون الستينيّات والسبعينيّات مرحلة بلورة فنّ حديث، لم يبتعد عن السورياليّة والواقعيّة إلّا لبناء هوّية فنيّة جديدة تقوم على الحرف (شاكر حسن وجماعة البُعد الواحد)، وعلى التجريد المستوحى من الفنون التقليديّة (مدرسة الدار البيضاء)… وهكذا سوف نجد أنفسنا أمام تطوّر جمالي لمفهوم الحرّيّة يجعل منها سياقيّاً مفارقة غريبة: فبعد أن كان هذا المفهوم يشكّل انفلاتاً من المحليّة ومن التراث لمعانقة الكونيّة، صار انغراساً في هذه المحليّة وسعياً نحو العالميّة.

الحرّيّة في الفنّ العربي المعاصر

تتمثل “الثورة الثالثة” في الفنّ العربي في التحرّر من أسار اللوحة وقيودها. بيد أنّ هذا التحرّر الذي خلق قطيعة في الفنّ الغربي بدأ مع مارسيل دوشان في مطالع القرن الماضي، وسيمتدّ على مدى النصف الأوّل من القرن العشرين، وسيكون هنا، ومرّة أخرى، ملائماً تماماً لبنية المجتمع والذهنيّة الغربيّة. كيف ذلك؟

في بحث سابق، توصّلنا إلى أنّ مسير الفنّ العربي والغربي متعاكسان بشكل ما لينتهيا إلى التجربة المعاصرة نفسها. فإذا كان الفنّ الغربي قد بدأ بالتصوير التجسيمي التشخيصي منذ الإغريق لينتهي إلى التجريد، فإنّ الفنّ العربي بدأ بالتجريد لينتهي إلى التشخيص. أمّا العودة إلى التجريد في الخمسينيّات والستينيّات، فإنّها جاءت لضرورتين: الاتصال بالتجارب الفنيّة الغربيّة (كما هو الأمر لدى شفيق عبّود والجيلالي الغرباوي) أو استيحاء العلامات والصور المحليّة (كما هو الأمر لدى أحمد الشرقاوي ومحمّد خدة). بيد أنّ هذا المسير في الفنّ العربي لا يتّسم بالوضوح بقدر ما ظلّ موسوماً بالتداخل وبتعايش الجديد مع القديم.

أمّا استيحاء الجسد والفضاء في المنشأة الفنيّة (installation) والمنجزة الفنيّة (performance)، فإنّه إن كان يعود إلى عالميّة هذه الأشكال الغربيّة، فإنّ تربته في العالم العربي أشدّ قوّة، بالنظر إلى أنّ النظام العقلاني الذي وسم التطوّر الرأسمالي لم يمسّ لدينا كافة مناحي الحياة. فنحن ما نزال نجد بالتوازي مع مظاهر الحداثة كافة أنماط العيش السابقة. كما أنّ سيادة العوائد ذات العلاقة بالدين أو بالمعتقدات الشعبيّة قد ضمنت استمراريّة هذا التعايش واستمراريّة أنماط العيش الجماعي بالموازاة مع نمط العيش الفرداني.

لقد ضمنت هذه الهجنة استمراريّة الموروث الشعبي الذي كان رولان بارث قد نعاه في الغرب في رسالته لعبد الكبير الخطيبي[10]. وهذه الهجنة المتمثلة في الأسواق وفي مظاهر التواصل في الحياة الاجتماعيّة تشكّل في نظرنا تربة خصبة ومورداً ثريّاً للفنّ المعاصر.

حرّيّة النقد في الفنّ العربي

مقارنة مع الخطاب الأدبي مثلاً، يمكن القول إنّ الفنّ العربي الحديث والمعاصر، مهما كانت واقعيته وجذوة النقد فيه، قد ظلّ متمحوراً حول النظرة الشخصيّة للفنان. والحقّ أنّ التكثيف البصري الذي يطبع العمل الفنّي وخصوصيّة التعبير باللون والخطّ والصور، أمور تجعل الفكرة أكثر قابليّة للتأويل منها في الكتابة الأدبيّة. مع ذلك فإنّ هذه الكثافة البصريّة هي مصدر قوّة العمل الفنّي، الذي يحكي في لقطة واحدة ما تحكيه الرواية مثلاً في عشرات الصفحات. الفنّ التشكيلي بهذا المعنى أقرب إلى الشعر منه إلى الرواية، حتى لو كان التصوير تشخيصيّاً أو واقعيّاً.

وقد أدرك الفنّ العربي قوّته هذه منذ مطالع القرن الماضي، بحيث إنّ الرؤية الاجتماعيّة الممهورة بغنائيّة شخصيّة قد طبعت تجارب العديد من الفنّانين، من محمود سعيد إلى إنجي أفلاطون مروراً بالجزّار ولؤي كيالي وغيرهم. غير أنّ التجارب الجديدة التي اعتمدت التجريد والتجريد المشخّص والتعبيريّة منحت للفنّ العربي منفتحات جديدة تطرح قضايا وجوديّة ورمزيّة وذاتيّة وجعلت المنحى الجمالي المتّصل بالذات أقوى وأعمق.

لقد أدرك الفنّان المعاصر أنّ اللوحة، بالرغم ممّا تمنحه للفنّان من ممكنات تعبيريّة، لا تسع تعدّديّة خطابه وحركيّتها، خاصّة مع الاستغلال الحرّ للفضاء وتطوّر التكنولوجيا البصريّة وما توفره من إمكانات تعبيريّة. تمكّن هذه التعدّديّة من مسرحة النقد ومن توسيع حرّيته وعناصره ومكوّناته. فقد أصبح الفضاء العمومي والجدار والشارع مجالاً لاستثمار ممكنات التعبير والنقد. وأعمال وليد رعد ورائدة سعادة ومنير الفاطمي وفيصل سمرة، مثلاً، تبلور منظوراً نقديّاً للمجتمع العربي ينبني على المشهدة الحركيّة والرمزيّة التي تمكّن منها المنشأة والمنجزة الفنيّة.

لقد أبانت تجربة “الربيع العربي” عن قدرة الفنون البصريّة على أن تكون تعبيراً في الواجهة عمّا يتأجّج في المجتمعات العربيّة من تعطّش للحرّيّة والكرامة. ففي تونس مثلاً، وبعد سنوات من الحصار على الفنون البصريّة، صارت جدران الشوارع مجالاً للملصقات والتعبيرات التصويريّة والغرافيتيّة. أمّا في مصر، فقد تطوّر فنّ الغرافيتي بشكل ملفت للنظر وأبان عن قدرة الفنّان على أن يجعل من الشارع فضاءً للنقد والإبداع والتعبير والبحث عن الحريّة[11]. من ثمّ فإنّ التوق للحريّة كما عيْش الحريّة ينتجان تجارب فنيّة تعيش الحرّيّة في غيابها وحضورها، كما في تحوّلات غيابها وحضورها.

تاريخ الحريّة هل هو تاريخ الفنّ العربي؟

وأنا أحرّر هذا المقال، وجدت نفسي أنغمس في تاريخ الفنّ العربي (والإسلامي عموماً)، بل لأقلْ إنّني وجدت نفسي أنغمر في تاريخ التصوير في الثقافة العربيّة. هل الأمر مصادفة؟ إذن، لماذا تتواشج الأسئلة لتغرس نفسها بعيداً في الذاكرة والتاريخ؟

منذ شهور قليلة فقط انتهيت من ترجمة كتاب لفيلسوف سينغالي مبدع هو سليمان بشير دياني عن علاقة محمّد إقبال وليوبولد سيدار سنغور ببرغسون، صدر مؤخراً عن دار توبقال[12]. يعتبر سنغور أنّ الفنّ الأفريقي يمثل نموذجاً للحرّيّة والتحرّر: “فمهما شدّدنا على ذلك، كما يقول سليمان بشير دياني، فلن نوضح إلى أيّ حدّ، كلّ جوانب فكر سنغور، من نظريّة المعرفة الحدسيّة إلى أنطولوجيا القوّة الحيويّة أو السياسيّة، تشكّل وجْهات اتخذتها فلسفته للفنّ الإفريقي”[13]. أمّا محمّد إقبال، فإنّه يربط بين صيرورة الإنسان فرداً والاجتهاد، أي الإبداع بحرّيّة. يضيف المؤلف بصدده قائلاً: “إذ أنّ النموذج لم يعد هو الميكانيكا السماويّة وإنّما الاخْتمار الحيّ حيث الدَّفعة الحيويّة لا تكفّ عن الاشتغال. فبما أنّ الحياة ابتكار وإبداع (لأنّ الله كلّ في خلق متجدّد)، فإنّ الفعل الإنساني يتمثل في المضاهاة المستمرّة لحركة الحياة نفسها. ذلكم ما يعنيه للإسلامِ نشرُ الحداثة التي يحملها في أحشائه، والتي لا علاقة لها بالتقنية أو بهندسةٍ للتكييف مع شيء خارجي عن الذات ويُسمّى “حداثة”. إنّ مفهوم “إعادة البناء” لا يلزم فهمه كتكييف أو محاكاة (لنموذج خارجي أو محاكاة النفس، رغبة في تكرار الذات)، وإنّما كاستعادة لمبدأ حركة، ومن ثمّ كخروج من التحجّر الذي بدأ في القرن الثالث عشر الميلادي. إنّه التحديد الواسع والكوني الذي يجاوِز الدلالة الشرعيّة الوحيدة للاجتهاد. وهو السبب الذي يجعلنا نقول حينها إنّ المجتهد، أي الشخص الذي ينتج جهد التأويل، ليس مخالفاً للمجاهد، أي الشخص الذي يجدّد النهضة والانبعاث ويحققهما، مضيفين أنّ الأمر لا يتعلّق بالأفراد أو بـ”أبطال”، بقدر ما يتعلّق بحركات سوسيوسياسيّة، أي ثقافيّة”[14]. ثمّة إذن في التاريخ، كما في الفكر، كما في التعبيرات الفنيّة المختلفة، تواشجات كبرى بين الحرّيّة والإبداع، وبين الاجتهاد والخلق، ضمن صراع عميق يخترق التاريخ بين الخوف من الصورة والتصوير والإبداع، وبين تحرير الصورة والتصوير والتصوّر والإبداع.

ها نحن أولاء إذن نقفل الحلقة التي بدأناها من غير أن نغلقها كلّيّة. فمفهوم الحرّيّة في الفنّ يتصرّف في كلّ الأزمنة. إنّه مفهوم فلسفي فكري يجاوز الفنّ ويستقرّ فيه في الآن نفسه. ينتظم كيانه وبنيته، وينفتح في الآن نفسه على السياسي والتاريخي. فلا حرّيّة إذن إذا كانت تنحصر في مجال دون غيره، من غير أن تخترق الوجود الإنساني كلّه زمناً وفضاءً.

  


[1]– نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 14

[2]ـ الزاهي، فريد، الجسد والمقدّس والصورة في الإسلام، أفريقيا الشرق، ط 2، 2010، ص 137.

[3]. A. Khatibi, Civilisation de l’intersigne, éd. IURS, 1996.

[4]ـ انظر بهذا الصدد كتابنا: الجسد والمقدّس والصورة في الإسلام.

[5]ـ “المغاربة والصّورة”، ضمن: العين والمرآة، الصّورة والحداثة البصريّة، منشورات وزارة الثقافة، 205، ص 76.

[6]ـ انظر بحثنا “الممانعة والفتنة: الجسد والذات والصّورة في الرحلة السفاريّة إلى أوربّا” ضمن: الزاهي، فريد، الصورة والآخر، ط 2. منشورات دار الحوار، سورية، 2013، ص 67 وما يليها.

[7]ـ كوبان، هنري، الخيال الخلّاق في تصوّف ابن عربي، ترجمة: فريد الزاهي، ط 2، دار الجمل، بيروت، ص 158.

[8]. Cf. Murielle Gagnebin, Fascination de la laideur, éd. Champ Vallon, 1994; U. Eco, Histoire de la laideur, Flammarion, 2007.

[9]. Sartre, L’Etre et le Néant, Gallimard/Tel, 1976, p. 77.

[10]ـ بارث، رولان، “ما أدين به للخطيبي”، ضمن: الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة: م. بنيس، دار العودة، 1980، ص 13.

[11]ـ انظر دراستنا: “الغرافيتي فنّ المقاومة والمواجهة”، ضمن: الزاهي، فريد، فتنة الحواس، كتابات عن الفنّ العربي المعاصر، توبقال، 2016، ص 69 وما يليها.

[12]ـ دياني، سليمان بشير، برغسون ما بعد الكولونيالي، الفلسفة الحيويّة لدى ليوبولد سيدار سنغور ومحمّد إقبال، ترجمة ف. الزاهي، توبقال، 2018.

[13]ـ المرجع نفسه، ص 19.

[14]ـ نفسه، ص 59.