التأويلية الدينية لدى صدر الدين الشيرازي
جعفر لعزيز
ملخص:
تسعى هذه المقالة إلى الحديث عن التأويلية الدينية لدى صدر الدين الشيرازي، باعتباره من أهم الفلاسفة المؤسسين لعلم التأويل في الثقافة الإسلامية، وواضع قواعده العلمية وضوابطه المعرفية، مستمدا أسسه من القرآن الكريم ومن الفلسفة الإشراقية العرفانية، والبرهانية اليونانية، وبوصفه أيضا فقيها ومؤولا عالما بأهمية الوحي، ومدركا لدوره الأساس في الوصول إلى إدراك الحقيقة والوصول إلى الحق؛ إذ أعدّه أساسا من أسس فلسفة الحكمة المتعالية، وقد استطاع أن يقترب من الدين، بنصوصه المقدسة ومسائله العقدية، وقضاياه الفكرية والإلهية، محاولا استنباط معانيها، وكشف مضمراتها، وتأويل بواطنها، ومن ثمة، تحقيق معانيها، لذلك فقد حاولت هذه الدراسة بيان مظاهر التأويلية الدينية لدى صدر الدين الشيرازي، من خلال النظر في علاقة التأويل بالقرآن، وأهم قواعد كشف أنوراه، ثم بيان مذاهب المؤولين للمتشابه القرآني، وعلاقة التأويليات بالوحي والنبوة، وعليه، إن المقالة مجلية لتجليات التأويلية الدينية عند صدر الدين الشيرازي.
تقديم
كشفت الدراسة التحليلية لتأويلية الإسلامية، بعدا آخر من أبعاد أجزاء النسق التأويلي عند صدر الدين الشيرازي؛ إذ طبق تجربته التأويلية على قضايا مرتبطة بالدين، أو بالمقدس[1]، حيث نظر في القرآن الكريم، والوحي والنبوة، والملائكة والشياطين، وتأويله لمسائل قرآنية تكمن في المبدإ والمعاد، وحدوث العالم، وخطيئة الشيطان، وجوهر دراسة هذه الأمور لغاية واضحة، تتجلى في أن النص القرآني حاو للوجود، وحامل لمتطلبات الإنسان في عالم الدنيا وعالم الآخرة. والسؤال الإجرائي الذي سيصاحبنا في هذا المطلب، اشتراطا أن “تأويل النصوص القدسية يخضع لشرائط الفهم عينها التي يستقيم بها فهم أي جنس أدبي”[2]، هو: ما تجليات هيرمنيوطيقا الدين لدى صدر الدين الشيرازي؟ وما مدخلها التأويلي المرتبط بالنسق العام لعلم التأويل؟
Ⅰ. قواعد فهم النص القرآني:
تحصيلا لمعاني القرآن وبناء تأويلاته والوصول إلى بواطنه دون تعطيلها، وضع الشيرازي قواعد تمكن الراغب من فهم القرآن من تحقيق مطلبه، وهي القواعد الآتية:
1. فهم عظمة الكلام:
قد مرّ معنا أن الفهم هو فهم مقاصد المخاطب، وهنا يشير الشيرازي إلى فهم عظمة الكلام، ومقصده في ذلك هو استحضار أن الخطاب القرآني بحروفه، وألفاظه وجمله خطاب رباني، لا ينبغي الزيغ في فهمه، فليس كلاما يقتضي أن تقول فيه ما جيء في خاطرك وقر في ذهنك، بل ينبغي الوعي بمسألة العظمة، ومصدر عظمة النص القرآني مكتسبة من مصدر رباني، ومن جهل هذا أدخل نفسه ضمن القائل في القرآن برأيه، وتقريرا لهذه العظمة، يقول الشيرازي: “فالقرآن كالمُلك المحجوب، الغائب وجهه، والظاهر أمره وحكمه، وقد يهتدي إليه وبه من يقف على سره، فهو مفتاح خزائن الملك والملكوت، وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت أبداً، ودواء سقام الجهالات، وشفاء أمراض ذمائم الصفات التي من سقى منه شربة لم يسقم أصلا”[3].
النص يحدد معالم عظمة النص القرآني ويقر على أن الذي يبتغي الهداية في عالم الدنيا والاهتداء به في عالم الآخرة، لازم عليه أن يقف عند سره لا علنه، وكل من بحث فيه وحق تلاوته فهما واستنباطا، وتأثر بما فيه وجدا واجتذابا، وتنور بأسراره تحقيقا فقد فهم عظمته.
2. التطهيـر:
التطهير قاعدة مهمة في تأويل النص القرآني، والمقصود به، تطهير القلب من الخبائث والمعاصي ومفاسد العقائد الموغلة، وأرجاسها المانعة من الفهم، وما لم يأخذ المؤول بهذه القاعدة وقع في التعطيل، وخفيت عنه مراتب ودرجات القرآن المتخفية والمستترة، قال الشيرازي: “فباطن معناه أيضا محجوب عن باطن القلب، إلا إذا كان متطهرا عن كل رجس، مستنيرا بنور التوبة(…)، فلا يصلح لنيل معانيه كل قلب إلا القلوب الصافية، ولا يصل إليها إلا من أتى الله بقلب سليم”[4].
منطوق النص ويؤكد مسألة ضرورة تطهير القلب وترك حديث النفس، والاستئناس بتدبر القرآن، كما نستأنس بأشعار المتنبي ومقامات الحريري، والتنزه بمدلولاتها الباطنة.
3. الـتدبـر:
تدبر الآي القرآني قاعدة ميسرة لفهم استنباط المعاني في نظر الشيرازي، ويحمل التدبر حمولة دينية تدل على المقصود في موضعها، المتمثل في التأمل والتمعن والإنصات الجيد للنص، حتى يتمكن القارئ من كشف باطنه، ونقارب التدبر من وجهة قرائية، فنقول: إنه فعل قرائي في جميع النصوص. إنه يمكنك من السفر مع النص عبر محطات ودرجات كثيرة، ويجعلك تنصت للمهموس دون القلقة والضجيج، فعملية التدبر بهذا عملية قرائية مصاحبة لكل مؤول يتوخى النظر في القرآن وتأويله، وعليه فالترديد والسماع ما لم يقترنا بالتدبر امتنع الفهم عن الظهور.[5]
4. الاستنباط:
مضى معنا أن كل استقلال عن الفهم والاستنباط هو تفسير بالرأي، وهنا تكمن أهمية قاعدة الاستنباط في فهم النص القرآني، وتأتي بعد قاعدة التدبّر، ومتى كان تدبر النص متحققا تحقق الفهم والاستنباط، وجعل الشيرازي هذه القاعدة مفتاحا يندرج ضمن علم المكاشفة؛ لأنه يمكن الراغب في الوصول إلى الحق من رؤية ذلك الحق في كل شيء، ويرى كل شيء منه وإليه وبه وعليه، فيتحقق له أنه الكل على التحقيق في وجوده، ومن لم ير هذا حاصلا، فكأنه ما عرف الحق وفهمه، ونقرب هذا في مسألة العاشق لمعشوقه، حيث متى تم حبهما سيظلان ينظران في كل الموجودات كأنهما هما الاثنان، وما لم يحصل هذا بطل أن يسمى حبّهما حبّا، وأورد الشيرازي قولا لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه: “ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل”.[6]
5. التخلي عن موانع الفهم:
نقارب هذه القاعدة بناء على مسألة سوء الفهم في التأويليات الغربية، التي تقول: إن التأويليات هي فن تحاشي سوء الفهم والاقتراب من الفهم[7]، وتحقيقه رغم أنه يتحدد حسب طبيعة النص المؤول[8]، وينساق هذا الأمر عند الشيرازي في ذكره لموانع تمنع المؤول من فهم النص، أو تكون سببا لوقوعه في سوء الفهم، وعدها في أربعة موانع[9]:
¯ الاهتمام بعالم الحروف والكلمات دون عالم المعاني: هذا متجل في أن الشيرازي يهتم بالباطن دون الظاهر، ومن اهتم باللفظ خلاف المعنى امتنع عنه الفهم.
¯ التقليد: المقصود منه تقليد مذهب معين والأخذ بمعتقده في تأويل النص، ويترابط هذا المانع مع تأويل التعضيد، حيث يعمد المؤول إلى تأويل النصوص وفقا مع معتقده المذهبي.
¯ صرف الهمة في ضبط دقائق العربية: إن الاستغراق في ضبط العربية ودقائقها من أجل فهم النص القرآني، أمر يحيل دون حصول ذلك، وقد أشرنا إلى هذا سابقا، بأن اللغة ليست شيئا مهما وكليا في النسق التأويلي عند صدر الدين الشيرازي، يقول: “صرف الأوقات في نحو الكلام، وتحسين الألفاظ، وعلم البلاغة وفن البديع، فإن ذلك من التوابع التي بها يقع الاحتجاج على المنكرين، وأما الاستبصار لمعاني آيات القرآن، فيكفي لها دون ما بلغ إليه الزمخشري وأترابه، واستفرغوا أوقاتهم وبذلوا غاية سعيهم وجهدهم فيه، فلا جرم حجروا المعاني الأصلية وحرموا عن جدوى الكلام”[10].
الاستغراق في ضبط دقائق اللغة من أجل فهم النص القرآني يعدّ مانعا من موانع تحقيق الفهم في تصور صدر الدين الشيرازي.
¯ الجمود والوقوف: أن يتوقف المؤول عند ما توصل إليه المفسرون الذين سبقوه، يجعل مسألة الفهم والتأويل غير متحققة، ويفوت المؤول على نفسه أيضا “فهم معاني التأويل وأنوار التنزيل”[11]، وههنا مؤكد آخر من مؤكدات موقعة الشيرازي ضمن تأويل التوليد، فلا يحق لكل من يرغب في فهم القرآن أن يفهمه وفق فهم الذين مضوا، نظرا لتغير البراديغمات المتحكمة في كل فترة معينة.
6. التخصيص:
يقصد بهذه القاعدة أن المؤول في أثناء ممارسته لفعل التأويل، يجب أن يخص نفسه بمعاني ذلك النص المؤول؛ معناه أن ينظر في الخطاب وكأنه المقصود ذاتا، يقول الشيرازي: “وهو أن يقدر العبد أنه هو المقصود بكل خطاب، فإذا سمع في القرآن أمرا ونهيا أو وعدا، أو عيدا، قدر أن الخطاب معه، فليعمل بمؤداه”[12].
للنص وجهان، وجه يقر فيه أن المؤول يتأثر بالخطاب القرآني، وأن يحسب نفسه المُتَحدثَ عنه، ووجه آخر ينفي فيه قصر القرآن الكريم فئة خاصة من الناس، بل هو خطاب مستغرق للعموم، ويقدر كل عبد على التأثر به.
7. التأثر والوجد بأنوار الكلام:
قد مرت معنا هذه القاعدة في قواعد الفعل التأويلي، بإدراجها ضمن القاعدة السيكولوجية، وقد حددنا مقصدها بتفصيل، ويقول الشيرازي موضحا القاعدة: “التأثر والوجد هو أن يتأثر باطنه ويتنور قلبه بأنوار الكلام، ويتفنن أحواله بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم وجد وحال من الحزن والخوف والخشية، والرجاء والفرح، فإن الشوق والوجد مغناطيس القرب من عالم التوحيد والملكوت، ومن اشتد شوقه اشتد انجذابه واتصاله، وتَأثرُ العبدِ بالتلاوة هو أن يصير قلبه بصفة الآية المذكورة ويتخلق بها”.[13]
يجلي منطوق النص بوجه رئيس أهمية هذه القاعدة كفعل تأويلي وقرائي، يمكن المؤول من مكاشفة الدلالات الباطنة والتأثر بها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذا الوجد يتغير حسب كل فهم، وتقودنا هذه الفكرة مباشرة إلى فكرة الفهم اللامتناهي في التأويليات الحديثة، حيث إن كل فهم يؤدي بنا إلى سوء فهم، فلا فهوم قارة وقطعية تحسم فكرة الحقيقة، وهذا ما يسميه الشيرازي بالتأويل بين التعطيل والتحصيل؛ فالتعطيل متناه نجده في التفاسير، والتحصيل فهم متجدد لا متناه، في التأويل، فمتى تم التأثر كلما ازداد شوقنا إلى تأثر آخر، وبعبارة تأويلية، كلما تم الفهم ازداد تطلعنا إلى فهم آخر.
بناء على ما أوردناه من القواعد التي تكون أُسا في فهم النص القرآني عند الشيرازي، نقدم تعليقا على طريقة ترتيبها، ومدى انسجام تراتبيتها فيما بينها، فأول قاعدة هي فهم عظمة الكلام، فهي تجعل المؤول يقف أمام قيمة النص، وبعدها قاعدة التطهير، معناه إذا علم قيمة النص مباشرة ينبغي عليه أن يطهر نفسه من كل دنس يعيق الفهم، تأتي بعدها مسألة التدبر، ومعناه التأمل، ووقتما يتأمل المؤول يعمد مباشرة إلى الاستنباط والفهم، شريطة أن يتخلى عن موانع الفهم المذكورة آنفا، وأن يخص نفسه بالخطاب الـمُؤوَل، وأن يتأثر بأنوار النص وأغواره.
إشارة: هذه المسائل الذي ذكرناها وسنذكرها تباعا في هيرمنيوطيقا النص القرآني، غير خاصة بالقرآن فقط، بل هي خاصة بالنص الحديثي أيضا، باعتباره نصّا دينيا.
Ⅱ. هيرمنيوطيقا النص القرآني والحديثي:
ننطلق في إبراز تأويليات النص القرآني لدى صدر الدين الشيرازي من نص (دايفيد جاسير)، الذي يحدد قيمة النصوص المقدسة ومزاياها، يقول: “النصوص المقدسة مليئة بهدايا وفضائل إلهية (…) النص المقدس هو أعلى وأفضل الكتب، يفيض بالراحة وراء كل العذابات والالآم والاختبارات والابتلاءات (…) يعلمنا النص المقدس كيف نقذف هذه الفضائل، النور في وجه الظلمة عندما يستضعفنا الشر”[14].
استحضارنا لهذا النص ليس عرضا، أو لغرض الترف فقط، بل للتأكيد على أهمية النص المقدس في التأويليات الحديثة، لكونه يشكل بداية للامتداد الذي شهدته مختلف مشاريعها، وهنا يقر جاسير أهمية هذه النصوص في الفضائل التي تفيض بها وبلغة الشيرازي بالبواطن والأسرار التي لا حد لها. ففكرة التعطيل في النص المقدس غير واردة عند الشيرازي، وإن الصفة التي ألصقها على القرآن هي التحصيل، فمهما قضيت من العمر ستلازمك مسألة تحصيل المعاني، واستبطان التأويلات، وإن اهتمام الشيرازي بالقرآن كان بفعل الثقافة القرآنية التي تشبع بها من جهة، ولأنه وضع مفاتيحه لفهم القرآن واستخلاص الوجود، وفهم النفس الإنسانية بمراتبها، من جهة أخرى، ونسفر عن معالم تأويلية النص القرآني فيما يلي:
أولا: مذاهب المؤولين في تأويل المتشابه:
قضية المتشابه هي من القضايا التي شغلت بال المفسرين والمؤولين والمهتمين بالنص المقدس. فتعددت وسائلهم في دراستها من أجل غاية واحدة، وهي تنزيه الله عز وجل من أن يشابهه أحد في هذا الكون، لقوله تعالى: ﴿لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيء وَهوَ السَّميعُ البَصِيرُ ﴾[15]، وقد مر معنا معنى المتشابه سابقا في الإطار المفاهيمي للدراسة[16].
وفي المجمل، فهو مخالف للمحكم وهو كل “ما غمض ودقَّ”[17]. وساق المؤولون في تأويلها مساقين: مساق يردون فيه المتشابه إلى المحكم، ومنه قول بدر الدين الزركشي: “فيجب رد المتشابهات في الذات والصفات إلى محكم”[18]، ومساق تؤول فيه المتشابهات تعضيدا لمذهبية واعتقاد المؤول، وعلى هذا قال (مرعى بن يوسف): “إنه يتمسك به كل ذي مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، كقوله: ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة﴾، والقدري يقول هذا مذهب الكفار لقوله: ﴿وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر﴾، ومنكر الرؤية يتمسك بقوله: ﴿لا تُدرِكُهُ الأبصَّار﴾، ومثبت الجهة بآيات الجهة وغير ذلك، ويسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والمخالفة له متشابهة”[19].
النصان مؤكدان ومبينان لطريقة تأويل المتشابه في القرآن الكريم في الثقافة الإسلامية، وهذا ما أكده الشيرازي في مفاتيحه بإيراده لهذه الطرائق والمذاهب، التي سار عليها الناس في تأويل الآيات المتشابهة، وقد أورد في ثلاث طرائق في كتابه “الحكمة المتعالية”[20]، وفي “مفاتيح الغيب” أربع طبقات سنذكرها مع بيان علاقتها بتأويلية النص القرآني، بناء على أقسام التأويل التي حددت في الإطار المفاهيمي للبحث، ونذكرها كالآتي:
طبقات الناس في تأويل المتشابه القرآني على مذاهب أربعة:
? تأويل تسديد (التعطيل): مسلك عليه أكثر أهل اللغة، الذين ينظرون في ظاهر النص، بإبقاء الألفاظ على مدلولاتها الظاهرة والأولية، دون مجاوزة المعنى الأولى، إلى معنى آخر تقتضيه بطون النص، معناه يعطلون معاني المتشابه القرآني والحديثي ولا يحصلونها، رغم أن سياقاتها النصية تسمح بانفتاح ذلك المتشابه على اللانهائي، يقول الشيرازي مبينا هذا: “أحدها: مسلك أهل اللغة، وعليه أكثر الفقهاء والمحدثين الحنابلة والكرامية، وهو إبقاء الألفاظ على مدلولها الأول ومفهوماتها الظاهرة، وإن كان منافيا للقوانين العقلية”[21].
اشتد متخذو هذا المسلك إلى إقرار المعنى الأول كمعنى حقيقي للنص المؤول، ووصل بهم الاشتداد إلى قبول ذلك المفهوم ولو كان منافيا لقوانين العقل[22]، وربط هذا بالمتشابه، أن الآية التي يتحدث الله تعالى فيها عن نفسه واصفا ذاته بصفة من الصفات أو فعل من الأفعال، فإنها تُترَك على ظاهرها دون تأويل، هذا المذهب لا يؤولون المتشابه، إنما مردّهم في ذلك رده إلى المحكم، فما اشتبه والتبس عليهم مخافة التجسيم وخشيتهم على قول شيء في صفات الله وأسمائه، يكتفون بعملية النقل فقط، نقل المتشابه إلى المحكم، من ذلك قول (ابن جرير الطبري): “ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها، إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب وظهر به العذر”[23].
تجلّى أن أهل هذا الضرب من التأويل، لا يبذلون جَهدا كبيرا في تأويل المتشابه، فقط يبتغون تجاوز اللبس والاشتباه في الآيات وردها إلى موضعها الأصلي، “يردون المتشابه إلى المحكم، فيفسرون بعض النصوص ببعض”.[24]
? تأويل تعضيد: يضم هذا النوع من التأويل مسلكين، وينحوان منحى واحد في المتشابه، وهو تأويل الآيات المتشابهة حسب ما يتوافق ومذهبهم الاعتقادي؛ فالمسلك الأول هم أرباب النظر (علماء الكلام)، ومساعيهم تأويل المتشابه ليتناسب مع قوانينهم العقلية، يقول الشيرازي: “منهج أرباب النظر والتدقيق وأصحاب الفكر والتعميق وهو تأويل الألفاظ وصرفها عن مفهومها الأول إلى معان تطابق قوانين النظر ومقدمات الفكر التزاما لتلك القوانين، وتحفظا على تنزيه رب العالمين عن نقائض الإمكان وسمات الحدثان ومثالب الأكوان”[25].
منطوق النص يوضح ما بسطناه شرحا لهذا الضرب من التأويل الخاص تعضيدا لمعتقدهم الفكري والمذهبي والعقلي، ومسلك ثان لأهل الاعتزال، فيقولون في آية تحمل صفة السمع. إنه سميع ولكن دون سمع، نصرة لمذهبهم الذي ينفي تجسيم الله تعالى، “والنتيجة أن كل ما دل على التجسيم كإثبات العلو، أو الصفات الفعلية، أو الخبرية، فيجب نفيه أو تأويله حتى يسلم دليل حدوث العالم؛ لأن إثبات هذه الصفات لله يقتضي أن يكون الله حادثا، وهو باطل”[26]، يقول الشيرازي: “الجمع بين القسمين، والخلط بين المذهبين، التشبيه في البعض، والتنزيه في البعض، وكل ما ورد في المبدإ، ذهبوا فيه إلى مذهب التنزيه، وكل ما ورد في المعاد جروا على قاعدة التشبيه، وهذا مذهب أكثر المعتزلين، كالزمخشري والقفال، وغيرهما من أهل الاعتزال”[27].
وعليه، فقد تبين أن المسلكين[28]يؤولان المتشابه من أجل ألا يتناقض معتقدهم مع المعنى الظاهر للنص، فيفضلان نصرة وتعضيد عقيدتهم على مدلولات النص الظاهرة، حتى تتسق الأمور دون ارتياب وتناقض.
? تأويل توليــــد (التحصيل):
هذا الضرب من التأويل يسلك فيه المؤولون في تأويل المتشابه طريقا توليديا لمعاني جديدة، يفهمونها حسب السياقات المتحكمة في النص، في علاقة المؤول بتجربته النفسية من جهة، وفي علاقته بظروف العصر من جهة أخرى، فهو مسلك محرر ومنور للدلالات، يقول الشيرازي: “مسلك الراسخين في العلم، الذين ينظرون بعيون صحيحة منورة بنور الله في آياته من غير عور ولا حول، إذ قد شرح الله صدروهم للإسلام، ونور قلوبهم بنور الإيمان”[29].
تأتى أن مسعى المسلك هو مغايرة النظرة إلى الآيات المتشابهة، بتأويلها اعتمادا على القواعد التي مرت معنا في تأويل النص الديني. بفهم عظمة المتشابه وتطهير القلب، وتدبر النص، واستنباط المعاني، بترك موانع الفهم، وترك التقليد، وعدم الوقوف على مقروء السابقين، والتأثر بأنوار المتشابه وأغواره، وهذا الضرب هو المشكل لتجليات النسق التأويلي وضوابطه، وهو الذي يجعلنا نقارب سؤال الموقعة، حينما تساءلنا، أين يمكن أن نموقع تأويلية الشيرازي، ضمن تأويل التوليد، سنؤكد هذا أكثر في الفصل الرابع، بتطبيق النسق على نموذج نص أدبي.
Ⅲ. هيرمنيوطيقا الوحي والنبوة:
لم يكتف الشيرازي بالحديث عن القرآن والحديث فقط، بل تعدى ذلك إلى الحديث عن الوحي والنبوة، ونبرز هذا في النقاط الآتية:
أ. الـوحـي:
تطرق الشيرازي إلى مسألة الوحي من جهة واحدة، حاول أن يجيب فيها عن كيفية نزول الوحي من عند الله إلى قلب النبي ثم إلى الخلق بواسطة كلام الملك، وأبرز هذا الطرح التأويلي في أن الروح الإنسانية شبيهة بالمرآة، وإذا ما تم صقلها بالعقل القدسي ليلتزم بالعبادة التامة، متخلصا من كل شائبة وغشاوة ومعصية، وقدفت في قلبه محاسن المعرفة وأنوار الإيمان، وهو ما أسماه بالعقل المستفاد؛ إذ النفوس الطاهرة تكون صالحة لتتقبل نور المعرفة وفيض الرحمن، ما لم تكن هناك ظلمة، أو حجاب يمنعها عن إدراك الحق وتلق ذلك الفيض الرباني، يقول الشيرازي: “إن الروح الإنساني كمرآة، فإذا صقلت بصقالة العقل القدسي للعبودية التامة، وزالت عنه غشاوة الطبيعة ورين المعصية، لاح له حينئذ نور المعرفة والإيمان، وهو المسمى عند الحكماء بالعقل المستفاد”[30].
النص مُجلٍ لما تحدثنا عنه وموضح للروح التي ينزل عليها الوحي. ويفرق الشيرازي في هذه النقطة بين روحين: روح قدسية ورح عامية، فالقدسية شديدة القرب من الله تعالى، يصلها الوحي دون وساطة، وقوية الإنارة وتصل إلى حد مشترك بين الباطن والظاهر، والمحسوسات والمعقولات، قال الشيرازي: “أما الروح القدسية فلا تشغلها شأن عن شأن، لا تصرفها نشأة عن نشأة، فإذا تَوَجَهَت إلى الأفق الأعلى، وتلقت أنوار المعلومات بلا تعلم بشري من الله، يتعدى تأثيرها إلى قواها، ويتمثل صورة شاهدها لروحها البشري، ومنها إلى ظاهر الكون، فتمثل للحواس الظاهرة، سيما السمع والبصر، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة، وألطفها، فيرى شخصا محسوسا، ويسمع كلام الله منظوما في غاية الجودة والفصاحة أو صحيفة مكتوبة، فالشخص هو الملك النازل، الحامل للوحي الإلهي، والكلام هو كلام الله، والكتاب كتابه”[31].
فهذه هي الخصائص المميزة للروح القدسية التي خصها الله تعالى بتلق الوحي والاستماع إلى كلامه، ورؤية مكتوبة على اللوح، بخلاف الروح العامية الضعيفة التي “إذا ما مالت إلى جانب غابت عن الآخر، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن الآخر، فلذلك البصر منها يختل بالسمع وبالعكس، والخوف يشغلها عن الشهوة، والشهوة تصدها عن الغضب، والفكر يعطلها عن الجميع”[32]، فزال بهذا اللبس بين الروحين، روح مخصوصة بالوحي وتوافق بين جميع المسائل حسا كانت أو ظاهرا، عكس العامية التي تقتصر ميلها على شيء واحد، إما الحس أو الباطن.
ويتم نزول الوحي بواسطة الملك في قول الشيرازي: “إذا اتصلت الروح النبوية بعالمهم، عالم الوحي الإلهي، والعلم الأعلى الرباني، يسمع كلام الله، وهو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقية في مقام قاب قوسين أو أدنى، وهو مقام القرب…والوحي ههنا هو الكلام الحقيقي الرباني كما مر، وكذلك إذا عاشر النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة، يسمع صريف أقلامهم وإلقاء كلامهم.
كلام الملائكة كلام الله النازل في محال معرفتهم وقلوبهم، لكونهم في مقام القرب…فإذا خاطبه خطابا بلا حجاب من الخلق بواسطة الملك أو بدونه، واطلع على آيات ربه، وانطبع في فص نفسه القدسية نقش الملكوت وصورة اللاهوت، كان ينشبح له مثال من الوحي وحامله نقش الملكوت وصورة اللاهوت، كان ينشبح له مثال من الوحي وحامله إلى الحس الباطن، فتجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق ويتمثل لها صورة غير منفكة عن روحها الحقيقي…فيتمثل لهذا حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها، فيرى ملكا على غير صورته التي كانت في عالم الأمر، بل على صورته الخلقية القدرية”[33].
ينجذب الوحي إلى عالم الحس حتى يظهر بواسطة الملك، مرة في عالم الأمر والغيب في الحس الباطن، ومرة في عالم الظاهر على نفس الحقيقة الموحى بها، ولكن بصورة ملك آخر محسوسة، فيتلقى الكلام بعدما كان وحيا، ويرى اللوح مكتوبا، فيتصل بذلك الموحى بباطنه وروحه بالملك، فتتم عملية الوحي، متلقيا بذلك “المعارف الإلهية، وآيات ربه الكبرى، ويسمع كلامه الحقيقي والعقلي من الملك الذي هو الروح الأعظم، ثم يتمثل له الملك بصورة محسوسة، ويسمع كلامه بصورة أصوات وحروف منظومة مسموعة، ويشاهد فعله وكتابه بصورة أرقام ونقوش مبصرة، فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه، يتأدى من باطنه إلى مشاعره وقواه المدركة، وهذه التأدية ليست عبارة عن انتقال الملك الموحى وما يحمله من الوحي إلى الموحى إليه، بل مرجعها إلى انبعاث نفسي النبي ﷺ من نشأة الباطن إلى نشأة الظاهر بعد سفرها”[34] من الشهادة إلى الغيب.
بناء على الإشارات المشار إليها، فإن نزول الوحي أولا خاص بالروح القدسية التي تنماز عن الروح العامية بصفات تفضيلية ربانية ذكرنها سابقا، ويسمى الشخص الذي يوحى إليه بالعقل المستفاد[35]، ويتم من عند الله إلى نبيه في عالم الوحي الإلهي بواسطة الملك بصورة باطنة، وأمرية قولية قضائية، وأخرى قدرية، ويتلقى بذلك الكلام سماعا ويراه كتابة، وينجذب هذا إلى عالم حقيقي بواسطة الملك أيضا ولكن بصورة أخرى محسوسة على شكل بشر، فيكون ما تلقاه كلاما بعدما كان وحيا، ويمر من باطنه إلى مشاعره وحواسه المدركة، التي يراه البشر عيانا.
ب. النـبـوة:
مواصلة البحث عن تشكلات أجزاء النسق التأويلي عند الشيرازي في علم التأويل، نصل إلى مبحث آخر ضمن هيرمنيوطيقا الدين، هو مبحث النبوة وتناولها صاحب المفاتيح من حيث ماهيتها وجهاتها وأقسامها، فبخصوص الماهية فلم يحددها بصريح العبارة، إنما سنحاول من خلال نصه أن نقرر ذلك وأن نحدده، يقول الشيرازي: “وأما تحقيق ماهيتها، أي ماهية النبوة، والكشف عن حقيقتها، فقد مضى شطر من الكلام في شرحها، ونقول ههنا قولا مجملا ومرسلا وهو: إن الأجناس أربعة، جوهر ثم جسم، ثم نام، ثم حيوان، كما أن الأنواع أربعة، الإنسان، وفوقه الحيوان، وفوقه نام، وفوقه جسم، وفوقه جوهر، ثم إن كل جنس وقع في الوجود، بإزائه صورة مكملة لتلك، فالمادة التي بإزاء جنس الأجناس هي قوة محضة بلا فعلية، وهيولى أولى بلا كمال، فكلما تصورت صورة وكمالا بعد كمال، حتى لم يبق فيها شائبة قوة ونقص وقصور، فبلغت دائرة الوجود في الصعود من مهبطها الذي هو نقطة الهيولى، إلى نقطة درجة العقل الأول”[36].
يحيل النص ضمنيا إلى ما ذكرناه في مسألة الوحي، حينما تحدثنا عن الروح القدسية وخواصها المميزة لها، حيث إن هذا النص يشير إلى الذات المخصوصة بالنبوة، وتجلى هذا من خلال التقسيمات التي أوردها الشيرازي، من جوهر وجسم ونام وحيوان، فجعل النبوة خاصة بالإنسان الكامل، ومعناه الجوهر، وماهيتها أنها قوة محضة يخصها الله تعالى بقوة عقلية كمالية، ويخص بها نفسا شريفة، تسمى بالنوع الأخير والصورة الكاملة الإنسانية، وهو شخص مقصود وصنف أشرف يكون صالحا “لقبول الفيض أولا من الرحمة الواسعة الوجودية من الأنوار الفلكية، ثم من الآثار العلوية العقلية، ثم من العناية الربانية والهداية إلى صراط مستقيم”[37].
بعد استنباط ماهية النبوة الخاصة بالإنسان الكامل[38]، نحدد الآن جهاتها، استهداء بسؤال إجرائي، هو لم النبوة؟ أو ما الحاجة إلى النبوة؟ سؤالان إجرائيان لمقصود واحد، وهذه الحاجة نبرزها في أمرين: أولا عناية الخالق، وثانيا حاجة الخلق. فالأولى تظهر في قول الشيرازي: “أحدها عناية الخالق الذي له الخلق والأمر”[39]، فكانت العناية الربانية بعباده سببا من أسباب النبوة، يسوس به أمورهم وشرائعهم وأحكامهم، عن طريق نبي يوحى إليه بالرسالة، وأما الثانية وهي حاجة الخلق، فمتجلية أنه إذا لم يكن في الناس علية قوم، ينتهون لنهيه ويأتمرون لأمره، وتساوى الناس في المرتبة لعمهم الفساد والخراب، وندلل على هذا بقول الله عز وجل: ﴿كَانَ النَّاس أمةً واحِدَةً فبعثَ اللهُ النَّبِيينَ مُبَشرينَ ومُنْذِرِينَ وأَنزلَ مَعهمُ الكِتَابَ بالحقِّ ليَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فيمَا اختَلَفوا فيه﴾[40].
يقسم الشيرازي النبوة في مفاتيحه إلى قسمين: ظاهر وباطن، وينسجم هذا التقسيم مع مكونات النسق التأويلي في عموميته، فالقرآن ظاهر وباطن، والإنسان سر وعلن، والوجود محسوس ومعقول، لذلكم فلا غرابة أن تخضع النبوة لهذا التصور الفلسفي للحكمة المتعالية عامة، ولتصور “مفاتيح الغيب” خاصة، يقول الشيرازي: “إن للنبوة باطنا هو الولاية وظاهرا هو الشريعة، فالنبي بالولاية يأخذ من الله أو من الملك، المعاني التي بها كمال مرتبته في الولاية والنبوة، ويبلغ ما أخذه من الله بواسطة أو بواسطة إلى العباد، ويكلمهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ولا يمكن ذلك إلا بالشريعة، وهي عبارة عن كل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وما استنبط منهما من الأحكام الفقهية على سبيل الاجتهاد، أو انعقد عليه إجماع العلماء”[41].
يوضح النص فكرة الظاهر والباطن في النبوة، مبرزا أن باطنها متجل في الولاية[42]، التي يولي بها الله الأنبياء تشريفا واصطفاء وتعظيما، فيتلقون كلامه بواسطة أو عدمها، وقد مر معنا شرح هذه المسألة في كيفية تلقي الوحي، وبخصوص ظاهر النبوة فهو الشريعة، وهي كل المسائل التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم من الشرائع والأحكام، الموجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية، والاجتهاد والإجماع.
وذكرنا أن رهان هذا التقسيم يندرج تحت تجليات النسق التأويلي في المفاتيح، حيث إن الشيرازي لم يكتف بتقسيم النبوة إلى ولاية وشريعة، بل تعداها إلى تقسيم الشريعة نفسها إلى باطن وظاهر، لكون أن
“للكتاب ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا…فظهره ما يفهم من ألفاظه يسبق الذهن إليه، وبطنه المفهومات اللازمة للمفهوم الأول، وحده ما إليه ينتهي غاية إدراك الفهوم والعقول، ومطلعه ما يدرك منه على سبيل الكشف والشهود من الأسرار الإلهية والإشارات الربانية”[43]، ويظهر تقسيمه للشريعة في قوله: “كان للشريعة ظاهر وباطن، ومراتب العلماء أيضا فيها متكثرة، ففيهم فاضل ومفضول وعالم وأعلم، والذي نسبته إلى نبيه أتم وقربه من روحه أقوى، كان علمه بظاهر شريعته وباطنه أكمل، والعالم بالظاهر والباطن أحق أن يتبع، لغاية قربه من نبيه وقوة علمه بربه وأحكامه”[44].
هنا مسألتان أساسيتان يشير إليهما النص، مسألة بيانية لظاهر وباطن الشريعة، على اعتبارها شاملة لمصادر الأحكام والشرائع، وهي الكتاب والسنة والاجتهاد والإجماع، وهي أربعة مصادر لها ظهرها وبطنها، والمسألة الثانية هي التأكيد على ضرورة الجمع بين الظاهر والباطن أثناء النظر في هذه المصادر، حتى يتأتى للراغب في التحقيق أو الفهم معرفة المفهومات الأولى وما يأتي بعدها، فوجب بهذا العمل بمقتضى علم الباطن والظاهر.
ج. أسماء الله وأفعاله وصفاته:
تحدث الشيرازي في مفاتيحه عن الذات الإلهية من جهات متعددة، مسفرا في ذلك عن حقيقة صفات الكمالية، ونعوته الجلالية، ومسفرا عن حقيقة وجوده، وكونه عين حقيقة الوجود، مع تقديمه لطرائق الاستدلال عليه، والسؤال الذي نستهدي به في بيان هذه المسائل، هو كيف نظر الشيرازي إلى ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؟
· اسم الجلالة “اللَّـه”:
اعتبر الشيرازي أن لفظ الجلالة “الله” اسم حاو لجميع الأسماء الإلهية، ويشمل مختلف مسمياتها وهو اسم يشكل عين حقيقة الوجود، وهذا ليس أمر غريبا في تصورنا؛ لأننا قد حددنا في أنطولوجية الكلام والكتابة جانبا من هذه الفكرة في كون الكلام هو سبب نشأة وتكوين الكون، وتدليلا على كون اسم “الله” جامعا للأسماء كلها يقول الشيرازي: “اعلم أن اسم الله تعالى يجمع الأسماء كلها؛ لأنه عبارة عن مقام الألوهية المنعوتة بلسان الشرع بالعماء، ومسمى الأسماء كلها، كما أن الوجود الأحدي منبع الوجودات كلها، وليس للذات الأحدية اسم ولا وصف بإزائه ولا لأحد قدم عنده؛ إذ الأسامي بإزاء المعاني العقلية لا بإزاء الهويات العينية”[45].
مقام الألوهية التي بلغها اسم الجلالة “الله” كان أساس اعتباره اسما جامعا مانعا للأسماء الإلهية الأخرى، قياسا على أن الوجود الأحدي لذاته كان منبع جميع الموجودات كلها؛ لأن “عالم الأسماء الإلهية عالم عظيم الفسحة لا يعوزه شيء من الأشياء، بل كل ما في عالم من العوالم العقلية والمثالية والحسية”[46]، وهناك أسماء عديدات لم تظهر في الوجود، لا تعد ولا تحصى، ويرى الشيرازي أن في العالم الإلهي معاني أسماء تتوافق وتختلف ولها أجناس وأنواع وأصناف[47].
· أأااتالأحدية بغابل صفات الله تعالى:
لن أفصل في مسألة الصفات في مفاتيح الغيب، ولكن سأركز على نقطة واحدة، نرى فيها الجانب التأويلي أجلى وأظهر، لما تحدث حقيقة صفاته الكمالية ونعوته الجلالية، قائلا: “اعلم أن كل صفة كمالية يتصف بها الموجود بما هو موجود، ولا يوجب تغيرا ولا تكثراً وتجسما، فإذا وجِدتْ في المعلول فوجودها في مبدإ الفياض عليه أولى وأقدم وأشد؛ إذ الوجود وكمالاته فائضة من العلة المفيضة على معلولها، ومعطى الكمال لا يقصر عنه”[48].
فصارت بهذا صفاته عين ذاته وحقيقته، وأن كل صفة يتصف بها الله تعالى فهي كمالية دون أن تتوجب تغييرا ولا تجسيما، وإذا اتصف بها المخلوق فهي عرض فيه وفيض، وهي مبدأ قائم في الفياض، وهي أقدم وأشد في ذاته عزوجل، وكل ما يفيضه الله على عباده ومخلوقاته، فهو في ذاته من الكمالات، وعليه تجلت لنا نظرة الشيرازي العامة إلى صفات الله تعالى التي يتصف بها، فاعتبر أن كل صفة هي حقيقة الوجود، وأن كل صفة فيه يفيض بها على مخلوقاته.
· أفعال الله تعالى:
فعل التأويل باعتباره فعلا تحصيليا غير تعطيلي يتحرك باستمرارية من أجل أن يوضح ماهية المفاتيح وقضاياها الهيرمنيوطيقية، وهذا ما استوضحه فعل الإنصات للممارسة التأويلية في حديث الشيرازي عن أفعال الله تعالى، لما أبرز تحقيقا ماهيتها وأقسامها، فيكون السؤال الإجرائي لهذه النقطة هو: ما ماهية فعل الله تعالى؟ وما أقسامه؟
قال الشيرازي تحديدا لماهية فعل الله تعالى: “اعلم أن فعله تعالى عبارة عن تجلي صفاته في مجاليها، وظهور أسمائه في مظاهرها، وهذه المجالي والمظاهر هي المسماة بالأعيان الثابتة عند قوم، وبالماهيات عند قوم آخر”.[49]
تجلى من النص أن فعله سبحانه وتعالى هو تجل لأسمائه وصفاته، ولكون أيضا أن الله تعالى لما أراد أن يتجلى تجلى في خلقه، وكان وجوده سببا لإفاضة النور على الموجودات، ووجود أفعاله تكمل وتتم بوجوده، وظهورها يتم بظهوره لذاته، تجليان اثنان مناسبة الوجود ومشابهة النور، وهذا التجلي مؤكد أساسا بالحديث القدسي الذي استحضره الشيرازي في المفتاح الخامس، في قوله الله تعالى تقريرا للمحبة الإلهية والمودة السبحانية لما أجاب داود عليه السلام، فقال: “كنت كنزاً مخفيا فأحببت أن أُعرفَ، فخلقت الخلق لكي أُعرف، أي غاية جودي وكمال إشراقي وظهور نوري، اقتضى لأن أعرف للخلق كنه جلالي ليشتاقوا إلى مشاهدة جمالي بقوة أنوار رحمتي الفائضة عليهم”[50].
خاتمة:
حاولت الدراسة أن تجتذب بعضا من خيوط التأويلية الدينية لدى صدر الدين الشيرازي، وإيضاح معالمها واستيضاحها، بوصفها من الأسس التي تهتم بها الهيرمينوطيقا الحديثة، وتم بيان ذلك في حديث الشيرازي عن قواعد فهم النص القرآني، وذكره لمذاهب الناس في تأويل المتشابه القرآني، بوصفه المحرك الأساس للمشاريع التأويلية في الثقافة الإسلامية، وتحقق هذا المطمح التأويلي الديني، لكون أن الشيرازي، أسس فلسفة الحكمة المتعالية، التي جمعت بين العرفان والوحي والبرهان، وعلى هذا الأساس جعل الوحي أساسا للتأمل الفلسفي، لتكون فلسفته المتعالية مرتبطة بالدين؛ لأنها تستمد ينابيعها من الوحي. إنّ الشيرازي، ربط تأويليته بالجانب الديني، من خلال الاقتراب من طرق وقواعد فهم النص القرآني، والحديثي، وتأويل صفات الله تعالى، وأسمائه وأفعاله، وتحقيق معانيها، والوصول إلى حقيقتها، ومن ثمة، إدراك الحق ومعرفة طريقه، إن القراءة والتأويل فعلان إجرائيان في كتابات صدر الدين الشيرازي الدينية والفلسفية والأدبية، حاولنا من خلالها بيان خطوط التأويلية الدينية وموضوعاتها[51].
لائحة المصادر والمراجع:
¯ إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، صالح فوزان بن عبد الله الفوزان، مؤسسة الرسالة، ط3/ 1423هـ – 2002م، ص144، جــ2
¯ أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات، مرعى بن يوسف بن أبي أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي (-1033)، تحــــ: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط1/ 1406هـ – جـــ1
¯ البرهان في علوم القرآن، بد الدين الزركشي، تحقيق: أحمد علي، دار الحديث القاهرة، ط1/ 2006م
¯ تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة الدينوري، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، ط: بدون
¯ جامع البيان في تأويل القرآن، ابن جرير الطبري (-310هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1/1420هـ – 2000م
¯ الحقيقة والمنهج: الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، جورج غادامير، تر: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، راجعه على الألمانية جورج كثوره، دار أويا، ط1/ مارس الربيع الأول2007م.
¯ صراع التأويلات: دراسات هيرمينوطيقية، تـ. د.منذر عياشي، مراجعة، د.جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1/ 2005م.، ص44
¯ علي آمين جابر، “فلسفة التأويل عند صدر الدين الشيرازي”، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت/ 2014م.
¯ في علم الكتابة، جاك دريدا، ترجمة وتقديم: أنور مغيث، ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط2/2008م،
¯ القاموس المحيط، الفيروز آبادي (-718هـ)، تحقيق وتقديم: يحيى مراد، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، ط2/ 1431هـ- 2010م.
¯ الكينونة والزمان، مارتن هايدغر، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1/2012م.
¯ مشكلة التأويليات le problème de herméneutique 1950، رودولف بولطمان، ترجمة: المفيد محمد، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ترجمات: قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 3 يناير 2018م.
¯ مفاتيح الغيب، صدر الدين الشيرازي، تعليق: المولى علي النوري، صححه وقدم له: محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات.
¯ ناصر حامد أبو زيد، “إشكاليات القراءة وآليات التأويل”، المركز الثقافي العربي، ط7/ 2005م، الدار البيضاء- المغرب.
¯ نظرية التأويل، بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، ط2/ 2006م،
¯ الهيرمنيوطيقا ومنطق فهم الدين، الشيخ علي الرباني الكلبايكاني، تعريب: الشيخ داخل الحمداني، مؤسسة أهل الحق الإسلامية، ط1/1434هـ 2013م.
[1]– ألف علي الرباني الكلبايكاني كتابا سماه الهيرمنيوطيقا ومنطق فهم الدين، حاول أن يطبق منجزات الهيرمنيوطيقا الحديثة على مختلف قضايا الدين، محددا قواعد فهمه وتفسيره، إلا أنه في كثير من الأحيان يسقط بأن ما شهدته التأويليات الغربية، أمر موجود عند المفسرين، ومعلوم أن التفسير مخالف للهيرمنيوطيقا والتأويل أيضا”، ينظر منجز الكاتب: الهيرمنيوطيقا ومنطق فهم الدين، الشيخ علي الرباني الكلبايكاني، تعريب: الشيخ داخل الحمداني، مؤسسة أهل الحق الإسلامية، ط1/1434هـ 2013م
[2]– مشكلة التأويليات le problème de herméneutique 1950، رودولف بولطمان، ترجمة: المفيد محمد، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ترجمات: قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 3 يناير 2018م، ص19
[3]– مفاتيح الغيب، ص ص: 58- 59
[4]– مفاتيح الغيب، ص59
[5]– مفاتيح الغيب، ص59
[6]– مفاتيح الغيب، ص60
[7]– ينظر: نظرية التأويل، بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، ط2/ 2006م، ص123
[8]– ينظر: مشكلة التأويليات le problème de herméneutique ، رودولف بولطمان، ص8
[9]– مفاتيح الغيب، ص62
[10]– مفاتيح الغيب، 63
[11]– مفاتيح الغيب، ص63
[12]– مفاتيح الغيب، ص63
[13]– مفاتيح الغيب، ص ص: 63-64
[14]– مقدمة في الهيرمنيوطيقا، دايفيد جاسير، ص91
[15]– سورة الشورى: الآية: 11
[16]– ينظر: الإطار المفاهيمي، ص11
[17]– تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة الدينوري، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، ط: بدون، ص102
[18]– البرهان في علوم القرآن، بد الدين الزركشي، تحقيق: أحمد علي، دار الحديث القاهرة، ط1/ 2006م، ص371
[19]– أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات، مرعى بن يوسف بن أبي أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي(-1033)، تحــــ: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط1/ 1406هـ – جـــ1، ص51
[20]– ينظر: الحكمة المتعالية، الشيرازي، ص344، جـــ2.
[21]– مفاتيح الغيب، ص72
[22]– للتفصيل أكثر في هذه المسألة ينظر كتاب أساس التقديس للرازي، ط، الحلبي، بدون، ص: 172-173
[23]– جامع البيان في تأويل القرآن، ابن جرير الطبري (-310هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1/1420هـ – 200م، ص204، جــــ4
[24]– إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، صالح فوزان بن عبد الله الفوزان، مؤسسة الرسالة، ط3/ 1423هـ – 2002م، ص144، جــ2
[25]– مفاتيح الغيب، ص74
[26]– موقف ابن تيمية من الأشاعرة، ص820، جــ2
[27]– مفاتيح الغيب، ص72
[28]– لفهم توجه المسلكين ونظرتهما أكثر دقة وتفصيلا، ينظر كتاب: الخرسانية: شرح في عقيدة الرازين، أصل السنة واعتقاد الدين، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية – الرياض، ط1/ 1437هـ، ص332./ وكتاب: المغربية: شرح العقيدة القيروانية، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، مكتبة دار المنهاج، المملكة العربية السعودية – الرياض، ط2/ 1439هـ، ص105
[29]– مفاتيح الغيب، ص ص 74- 75
[30]– مفاتيح الغيب، ص33
[31]– مفاتيح الغيب، ص ص: 34-35
[32]– مفاتيح الغيب، ص34
[33]– مفاتيح الغيب، ص ص: 35-34
[34]– مفاتيح الغيب، ص ص: 35-36
[35]– قال الشيرازي: “العقل المستفاد: وهو بعينه العقل بالفعل، إذا اعتبرت في مشاهدة تلك المعقولات عند الاتصال بالمبدإ الفعال، أو سمي به لاستفادة النفس إياه مما فوقها، فالإنسان من هذه الجهة هو تمام العود وصورته، كما أن العقل الفعال كمال عالم البدو وغايته، فإن الغاية القصوى في إيجاد هذا العالم الكوني ومكوناته الحسية هي خلقة الإنسان، وغاية خلقة الإنسان العقل المستفاد”، ينظر: مفاتيح الغيب، ص522
[36]– مفاتيح الغيب، ص481
[37]– مفاتيح الغيب، ص481
[38]– عرف الشيرازي الإنسان الكامل في المفتاح الأول، ينظر مفاتيح الغيب، ص19
[39]– مفاتيح الغيب، ص479
[40]– سورة البقرة: الآية 213
[41]– مفاتيح الغيب، ص485
[42]– قال الشيرازي: “اعلم أن الولاية مأخوذة من الولي وهو القرب، ولذلك يسمى الحبيب وليا، لكونه قريبا من محبه، وفي الاصطلاح هو القرب من الحق سبحانه”، ينظر: مفاتيح الغيب، ص487
[43]– مفاتيح الغيب، ص485
[44]– مفاتيح الغيب، ص486
[45]– مفاتيح الغيب، ص329
[46]– مفاتيح الغيب، ص330
[47]– ينظر: مفاتيح الغيب، ص330
[48]– مفاتيح الغيب، ص325
[49]– مفاتيح الغيب، ص336
[50]– مفاتيح الغيب، ص293.، ولم يذكر سنده، ووجدنا الحديث في كتاب “كشف الخفاء” للجعلوني ، بصيغة أخرى وبمضمون واحد، يقول في الحديث رقم 2016: “كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني، وفي لفظ فتعرفت إليهم فبي عرفوني، قال ابن تيمية: ليس من كلام النبي ﷺ ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وتيمه الزركشي والحافظ ابن حجر في اللآلئ والسيوطي وغيرهم، وقال القاري: لكن معناه صحيح مستفاد من قوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، أي ليعرفوني كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما، والمشهور على الألسنة كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فبي عرفوني، وهو واقع كثيرا في كلام الصوفية واعتمدوه وبنوا عليه أصولا لهم” انتهى. ينظر: كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للمفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي المتوفي 1162، مكتبة القدس، القاهرة، الجزء الثاني، ص132
[51]– من المواضيع التي لم نشأ الحديث عنها في هذه الدراسة، هي إبراز ثنائية العلاقة بين الماهية والوجود عند الشيرازي، فالماهية هي صورة الشيء قبل أن يتحقق، والوجود هو تحقق الشيء، فالماهية قبلية وسابقة على الوجود، وسنحاول جعلها دراسة استكمالية لأجزاء النسق التي تم الوصول إليها في هذا البحث، وخاصة في ربط هذه الثنائية بالقرآن الكريم، لكونه الكتاب الذي لا يبلى ولا ينفذ.