قراءة في كتاب: نشأة المدينة العربية الإسلامية، الكوفة

يتألّف كتاب “نشأة المدينة العربيّة الإسلامية، الكوفة [1] للمفكّر التونسي هشام جعيّط[2] من سبعة أبواب وخاتمة، وقد خلا البحث من مقدمّة يُمهّد بها صاحب الكتاب لبحثه أو يعرض من خلالها البناء الذي ارتآه والمنهج الذي اعتمده، وهو بهذا الخيار يُذكّرنا بخطبة “زياد بن أبيه البتراء” التي قالها يوماً في حواضر العراق.

ولا عجب، فالكتاب يعرض لنشأة مدينة الكــوفــة أولى الحواضر العربيّة الكبرى خارج الجزيرة العربيّة. وقد ارتأت الأسباب “الجيوسياسيّة” أنْ تنشأ هذه الحاضرة في العراق زمن الفتوحات الإسلاميّة الأولى. والمتأمّل في توزيع أبواب الكتاب، يُلاحظ أنّ المؤلّف أسهب في حديثه عن نشأة المدينة وتطوّرها من الداخل وضمن مُحيطها الجغرافي، مُركّزاً على خصائصها السياسيّة والحضاريّة التي جعلتها أنموذجاً للمدينة الإسلاميّة، وهو أنموذج يجد له المؤلّف أصولاً وروابط ضاربة بجذورها في الحضارات الشرقيّة السابقة عليه، مثل الحضارات البابليّة والفارسيّة والهلنستيّة، ولكنّه كذلك يقف كثيراً على إسهامات العرب الخالصة فيه ومحاولاتهم تشكيل مدينة عربيّة تكون وجهاً صادقاً للحضارة العربيّة الإسلاميّة الناشئة.

– تطرق المؤلف في الباب الأوّل إلى “الفتح العربيّ للعراق وتأسيس الكوفة (12-17هـ/233-238م)” رابطاً ربطاً وثيقاً بين إنشاء الكوفة (17هـ) وفتح العراق بعد طرد فلول الساسانيين إلى النجد الإيرانيّ، وذلك بعد أنْ ثمّن أهميّة منطقة العراق قبل الفتح الإسلامي وعلاقاته الإستراتيجية بالإمبراطورية الساسانية إلى درجة أنّ قادتهم العسكريين كانوا يقولون: “لو ضاع العراق من الساسانيين لضاع كلّ شيء لديهم.” وهذه النظرية لا زالت مستقرة في فكر الإيرانيين إلى اليوم، وقد أثبتتها الأحداث التاريخيّة المُعاصرة.

واستنتج المؤلّف أنّالكوفة بعد نشأتها جسّدت مفهوماً مُعاصراً للدولة العربية آنذاك، إذ أصبحت رمزاً للعروبة الجديدة التي ظهرت مع الإسلام، وموطناً جديداً لها، وهي رمزيّة مُغايرة لتلك التي مثّلتها مدينة الحيرة طيلة ثلاثة قرون. ويُشير المؤلّف إلى أنّ الفتح الإسلامي في هذه المنطقة الحيوية مرّ بمراحل مختلفة، وكان التمييز فيه بين المحاربين على أساس الأقدميّة في الجهاد، وليس على أساس التفرقة بين أُصول المجاهدين أو قبائلهم. وهذا الاتّجاه التشجيعي هو الذي خلق فريقاً من المسلمين مُتفانياً في سبيل نشر عقيدته بعيداً عن المطامح السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ففكرة الفرار من المعركة مثلاً في نظر الفاتحين الجدد، صارت ضعفاً لا يغُتفر، و خطيئة تُقترف تجاه الله.

ويؤكد هشام جعيّط أنّ العامل الديني أسهم بقسط وافر في فتح العراق، على أنّ العوامل الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية… الخ، نهضت بدور لا يقلّ أهميّة عن دور العامل الدّيني؛ فالمصالح المالية كانت من المُحفزات الضروريّة في الفتح مُستنداً في ذلك إلى الكثير من الروايات التاريخية التي أوردها أبو جرير الطبري(ت 310هـ) مُحيلاً فيها على التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين العرب والفرس في ذلك الوقت.

– وقد أسهب المؤلّف في فصل مستقلّ في تحليل “معركة القادسيّة”([3]) وتفصيل أحداثها وإجلاء دلالاتها، عاقداً مُقارنة جادة ومُهمّة بينها وبين معركة اليرموك. وقد أثبت جعيط أنّ الخطّة الحربيّة التي انتهجها العرب في القادسية بقيادة القعقاع بن عمرو التميميّ وظّفت “فكراً عسكريّاً” استراتيجياً حطّم القوة الأساسية للدولة الفارسية (L’état persane) وأفقدها صوابها، فحطّمها بعد أن كانت دولة جبّارة في المنطقة. أمّا “معركة اليرموك”([4]) ففيها واجه العرب القوّة البيزنطيّة، وكانت المواجهة ثمرة حملة طويلة وشاقة من العناء والتعب والاستطلاع استمرت ثلاث سنوات وانتهت بكسر شوكة الروم.

وقد أرجع جعيّط أسباب سقوط الدولة الفارسية إلى الأزمة الداخلية المستمرة في دولتهم والتناحر بين الساسانيين، وهو ما تجلّى في بروز السلوك العشوائي الذي ساد جيشهم وقيادتهم العسكرية وجعلها جسداً هامداً بلا روح ولا دوافع ولا إيمان بالوطن والدولة.

– أمّا الباب الثاني، فعرض جعيّط فيه “المُخطّط المدنيّ” الأوّل لمدينة الكوفة مُشيراً إلى أنّ فكرة إنشاء هذه المدينة وتخطيطها عائد بالأساس إلى التجمع الهائل للقبائل العربية في تلك المنطقة، من أمثال قبيلة (قُضاعة وتميم التي وصلت المنطقة نتيجة للفتوحات الإسلاميّة). وقد تناول المُؤلّف في هذا الباب طرق الاستيطان في هذه المدينة من جهة، ووضّح وظيفتها الحضاريّة من جهة أخرى ليخلص في نهاية التحليل إلى وجود نيّة مدنيّة جليّة عند العرب الفاتحين، انطلاقاً من اختيار موقع تخطيط الكوفة وانتقاء رسومها المعماريّة وصولاً إلى بناء المدينة وتشكّل معالمها تدريجيّاً، وهي حركة تُعلن ولا شكّ عن بداية بناء المدن والتطوّر الاجتماعي في الدولة الإسلامية. بيد أنّ ما بُذل فيها من عناية في التخطيط لا يجعلنا نُغفل أنّها كانت بحاجة ماسة إلى الإدامة والتطوير.

– أمّا الباب الثالث، فخصّصه الباحث للردّ على تصوّرات المستشرقين حول المدينة الإسلامية، لاسيما جملة من الآراء التي تتّهم بناء مدينة الكوفة بالعشوائية وعدم التخطيط المُسبق، مثلما نجد ذلك في دراسات مستشرقين من أمثال جورج مارسي (Georges Marçais ) أو إدمون بوتي (Edmond Pauty). لقد ردّ المؤلف على هذه الاتّهامات مُنبّهاً إلى أنّ العرب قد عرفوا تنظيم المدن والشوارع العريضة منذ بداية الدعوة، ويستشهد على ذلك ببناء المدينة المنورة بعد الهجرة إليها، مُعتبراً أنّ قضية إنشاء مدينة الكوفة قضية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ شمولي للحضارة الإسلامية أكثر من كونها قضية تمصيرية أو معمارية لمدينة إسلامية مُستحدثة.

– ويستصفي المؤلّف الباب الرابع من الكتاب لمعالجة جملة العوامل التي أسهمت في نشأة مدينة الكوفة “من بابل إلى مكة”، إذ ارتبط تكوّن الكوفة مكاناً وزماناً في تصوّر هشام جعيط بتقاطع المؤثّرات والتقاليد المتراكمة. ولعلّ أهمّ الأدلّة المعاصرة على ذلك أنّ الحفريات الأثرية في مدينة الكوفة أظهرت الكثير من التأثيرات الشرقية الهلينية في بنائها وخططها، وإنْ كانت المعالم العربية الأصول هي الغالبة عليها. ويبرهن المؤلّف على ذلك من خلال شرح تفصيلي للتطوّرات الحضارية في هذه المدينة الّتي غدت وفي زمن وجيز مدينة تليق بالدولة الناشئة وطموحاتها الكبيرة.

ولعلّ المهمّ في هذا المستوى أنّ الباحث لا يُغفل دور الكوفة البارز في استقرار القبائل العربية وانتقالها موقعاً استراتيجياً مكّنها من أنْ تنهض بدور مهم في نشر الإسلام، إذ يوضّح أنّ مدينة واسط التي بناها الحجاج الثقفي في السنوات ما بين 87 و86 من الهجرة في العهد الأموي نشأت نتيجةً حتميةً لبناء الكوفة وحماية طرق المواصلات بينها وبين البصرة المركز التجاري المهم للإمبراطورية الناشئة.

– وقد أفضى نظر الباحث في تحليل التطور الاجتماعي والاقتصادي للمدينة وأهميتها السياسية إلى تأكيد أنّها كانت الأنموذج الأفضل للمدن الإسلامية قبل بناء مدينة بغداد. ففصّل لنا في البابين الخامس والسادس المجهودات المعماريّة التي قامت عليها المدينة وطرق التمدّن والتنظيم التي نهجها العرب في استكمال تطوّر المدينة، مثل الطرقات والسور والخندق الذي ضُرب حولها. وقد أقام فصلاً كاملاً للحديث عن مساجدها التي بلغت حسب المراجع الشيعيّة ثلاثين مسجداً، وهو عدد لم يوجد في مدن ذلك العصر، مثل المدينة المنوّرة والبصرة وبغداد، وقد فسّر المؤلّف هذه المسألة بتشجيع السلطة على مساجد العشائر والملل والنحل وحتى الأفراد، إضافة إلى ذلك أفرد المؤلّف فصلاً خاصّاً بالجبّانات التي اختطّتها القبائل العربيّة عفويّاً، إذ تميّزت كلّ قبيلة بجبّانتها حتىّ بلغت إحدى عشرة جبّانة، غلب فيها الأصل اليمنيّ وتعدّدت وظائفها الاجتماعيّة والعسكريّة والسياسيّة.

– أمّا الباب السابع،فخصّصه المؤلّف لعقد مقارنة بين الكوفة وبغداد عاداً الكوفة أنموذجاً للمدينة الإسلامية قبل ظهور عاصمة العالم آنذاك؛ أي بغداد مدينة السلام التي تجاوزت في رقيّها مدينة الكوفة وغيرها من المُدن العربيّة، وعندها فقط انتقلت العاصمة السياسيّة والدواوين المركزيّة على نحو ما ذكر البلاذري في كتابه “فتوح البلدان” من الكوفة إلى بغداد.

– أمّا خاتمة العمل، فإنّ المؤلّف قد سعى إلى إبراز الوجه المدينيّ للكوفة، فأشاد خاصّة بما تُمثله من أهمية للمسلمين نظراً لكونها نقطة عبور وتحوّل من العروبة القديمة إلى الإمبراطورية الإسلاميّة. وقد حفلت خاتمة الكتاب بجملة من الملاحق والجداول والرسوم والخرائط التخطيطية الخاصة بمدينة الكوفة وجوارها.

وغنيّ عن البيان، أنّ المؤلف اختار موضوعاً مهمّاً من موضوعات التاريخ الإسلامي، وأوغل في تحليله وفي بيان فاعليته في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولا مناص لنا من الاعتراف بأنّ المكتبة العربية مازالت بحاجة إلى المزيد من هذه المباحث الحضارية لنقصٍ فيها شديد لمثل دراسات هشام جعيّط وأمثاله من الدارسين الجامعيين المتخصصّين، ولا سيما إذا التزموا بقيم البحث العلميّ وطبقوا مناهجه.

والحاصل أنّ في هذا الكتاب جهد كبير، وإضافة علمية جيدة، أضافت للدراسات العربية والإسلامية رؤية جديدة في دراسة المدن العربية القديمة، بعد أنْ توّصل صاحبها إلى عدة نتائج علمية طيبة.

لقد بنى جعيط البحث على تصوّر واضح تجلّى في جميع مراحل الكتاب بدءاً من العنوان الذي قام على اعتبار الكوفة المدينة الأولى في الثقافة العربية الإسلامية، وهو طرح ينطوي رؤية مخصوصة لا تعتبر المدينة الحيز الجغرافي الّذي يجتمع فيه جماعات من البشر باختلاف أجناسهم ومعتقداتهم وتقاليدهم، وإنّما المدينة هي رؤية ثقافية واجتماعية تتأثّر بالعوامل الطبيعية كالنهر، والصحراء،… الخ من جهة، وهي على صلة وطيدة بثقافات الآخر من جهة أخرى تتفاعل معها قبولاً ورفضاً.


[1]- هشام جعيّط: الكوفة نشأة المدينة الإسلاميّة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،2005.

[2]– ولد هشام جعيط، في تونس في 6 ديسمبر 1935 وزاول تعليمه الثانوي بالمدرسة الصادقية، ثم تحصّل في سنة 1962 على الإجازة في التاريخ. تخصص في التاريخ الإسلامي وقام بنشر العديد من الأعمال التي صدرت في العالم العربي، وفي أوروبا. أحرز سنة 1981 على شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة باريس. وظل أستاذاً شرفياً في جامعة تونس، وأستاذاً زائراً بكل من جامعة ماك غيل مونتريال وجامعة كاليفورنيا بركلي وبمعهد فرنسا. وهو يتولى منذ شهر فيفري 2012 رئاسة مجمع بيت الحكمة.

من مؤلّفاته:

·الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، بالفرنسية، 1974

·أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة، بالفرنسية، 1978

·الكوفة: نشاة المدينة العربية الإسلامية، بالعربية والفرنسية، 1986

·الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر، بالفرنسية، 1989، بالعربية 2002

·في السيرة النبوية – 1 – الوحي والقرآن والنّبوّة 1999

·أزمة الثقافة الإسلامية 2001

·في السيرة النبوية – 2 – تاريخية الدعوة المحمدية 2006

[3]– معركة القادسية هي معركة وقعت في 13 شعبان 15 هـ / 16-19 نوفمبر 636م – بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص والفرس بقيادة رستم فرّخزاد في القادسية وقد انتهت هذه المعركة بانتصار المسلمين ومقتل رستم.

[4]– معركة اليرموك، كانت سنة15 هـ 636- م بين العرب المسلمين والإمبراطورية البيزنطية، يعتبرها بعض المؤرخين من أهم المعارك في تاريخ العالم لأنها كانت بداية أول موجة انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب، وآذنت لتقدم الإسلام السريع في بلاد الشام. المعركة حدثت بعد وفاة الرسول عام 632م بأربع سنوات.

قررت الجيوش الإسلامية الانسحاب من الجابية بالقرب من دمشق إلى اليرموك بعد تقدم جيش الروم نحوهم. تولَّى خالد بن الوليد القيادة العامة للجيش بعد أن تنازل أبو عبيدة بن الجراح، كانت قوات جيش المسلمين تعدّ 36 ألف مقاتل في حين كانت جيوش الروم تبلغ 250 ألف مقاتل.