اللاهوت السياسي في سياق ما بعد العلمانية
تشكل مسألة علاقة الدين بالسياسية وما يترتب عنها في الفضاء العمومي وفي الاجتماع السياسي برمته، انشغالا كبيرا من انشغالات الفكر الفلسفي والسياسي على حد سواء، جل النظريات الغربية التي تطرقت للمسألة الدينية في نشأتها والحاجة إليها؛ أجمعت على أنه بمرور الوقت يضمُر الدين ويختفي تدريجيا لصالح مساحات العقلانية والتنوير، غير أن جميع الظَّواهر السيّاسيّة والأحداث الجارية في الآونة الأخيرة، تشير إلى عودة الدين بقوة[1] سواء في السياق العربي الإسلامي أو في الغرب، حيث يجتذب الدين أعدادا كبيرة من الناس وخصوصا في الغرب، بل وحتى في أوساط الباحثين والمثقفين الذين يرون فيه مسلكا للبحث عن المعنىLa quête de Sens . ينبئ هذا السياق أو سياق ما بعد العلمانية[2]La Post-sécularité كما يسميه هابرماس، عن تغير في بنية المجتمعات وفي طبيعة تركيبتها الهوياتية؛ مما شكل إيذانا بأفول النِّظام الليبرالي العالمي.
نرى وبجلاء التحول الذي طال بنية وطبيعة الروابط الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة، حيث أضحت الفضاءات العمومية في أوروبا وأمريكا والعديد من بلدان العالم؛ فضاءات للاحتراب والنزاع، فالعلاقات البينعرقية والعلاقات بين الأديان، يسودها التوثر الدائم مما ساهم في تشكل وعودة الشَّعْبَويَّة الاستبدادية، والقومية(العنصرية) المناوئة للمهاجرين في دول أوروبا[3]، والولايات المتحدة، مما يشكل ولا شك تحديًا كبيرًا لمبادئ اللِّيبرالية المتمثِّلة في حرية المعتقد وقبول التعددية والانفتاح والتسامح وحقوق الإنسان. تتعرض هذه التوجهات والمبادئ(الليبرالية) للنقد والهجوم، في وسائل الإعلام الرسمية وفي وسائل التواصل الحديثة، كشبكات التواصل الاجتماعي وفي كلِّ المنابر، وفي غالب الأحايين من قلب المجتمعات الديمقراطية الليبرالية. بعُدت الشقة بين الليبرالية والديمقراطية نفسها، حيث نرى العديد من الدِّيمقراطيات، منشغلة بالرَّغبة في ابتعاث جديد لمفهوم “السِّيادة”، التي صعرت خذَّها للعولمة والتعدُّدِيّة الثَّقافية والدينية[4]، وتنافح عن فكرة وجود حدود مغلقة وهوية وطنية أصيلة، أضحى طيف السِّيادة الوطنية من صلب هواجس وانشغالات العديد من المجتمعات المعاصرة. قد يكون مطلب السِّيادَةُ متوهما، بيد أن هذا لا يجعل آثاره أقلَّ فاعليةً. باتت مشكلة السيادة، أشد قوة وحدة في زمن العولمة، حينما لم يَعُد من المحتمل للحكومات واقتصادات بلدانها التحكم الحقيقي في الاقتصادات الوَطنية، حيث يتم تحويل مبالغ طائلة من الأموال، إلى جميع أنحاء العالم وفي وقت وجيز، وحيث تسببت منظومة مصرفية غير قابلة للتحكم بل خارجة عن السيطرة؛ في ضعف اقتصادات البلدان وازدياد المديونية والتبعية للخارج؛ فليس من الغريب، إذن، أن يتمسك العديدون بفكرة السِّيادة الوطنية بوصفها خلاصهم الوَحِيد. وليس من المستغرب أن، كثيراً من الداعمين لهذا الطرح يعزون شعورهم بالغربة في عالمنا المعاصر؛ إلى الهجرة الجماعية واختلاطهم بغير أبناء جلدتهم، وتقسيم هويتهم الثَّقافية والوطنية التي يعتبرون أنها ناتجة عن ذلك.
يمكن اعتبار الرَّغبة الملحة في دولةٍ قويةٍ، وهويةٍ متحدة ومتجانسةٍ، على أنَّها من علامات هذه النزعة المتزايدة والتي صارت هاجسا وجوديا حتميا، حيث أضحت مراكز القوة ومصادر السُّلطة والشَّرعية متفرقة وأكثر غموضًا. والسؤال الأساس الذي يبرز هنا هو من يحكم ويقرر على الحقيقة؟ أهي الدولة القومية التي تشكل “إرادة الشعب” مظهرها الأساس؟ أم إنها مؤسسات قانونية دولية مجهولة ومؤسسات حقوقية ومصرفية ومالية عالمية؟[5].
شكل هذا الانشغال (سؤال من يحكم؟) السُّؤال الرئيس الذي تصدى له كارل شميت، المفكر السياسي الألماني المحافظ، وعالجه بالدرس والتحليل من خلال سفره “الَّلاهُوت السياسي”، هذا وإن كان شميت قد كتب سفره ذلك من سنوات بعيدة قد خلت وفي سياق مختلف نسبيا عما نحن فيه، إلا أن انشغاله بضرورة وجود دولة سياسية وسيادية قوية تستقي تماسكها وقوتها من “المشروعية الكاريزمية” التي نافح عنها ماكس فيبر Max Weber (1864-1920)؛ كان هو المحدد الرئيس لمعنى السيادة[6].
إن شرعية الدولة -حسب شميت- لا تستقيها من مصدر خارجي؛ فالدول الديمقراطية ليست على نفس الشاكلة التي تشترط الوحدة الكاملة للشعب، ولكن لكل شعب خصوصياته الثقافية والتاريخية، وبالتالي له ديمقراطيته التي تتماهي مع هويته. ومن ثم يرى شميت أن لكل دولة الحق في الدفاع عن سيادتها حماية لها من “التوجهات الليبرالية” التي ترمي إلى تكريس فكرة “الدولة العالمية” ومن خلال ذلك إلى تبني “النموذج الواحد” الذي يمتح قواعده وأسسه التشريعية والقانونية من الديمقراطية البرلمانية والتعددية السياسية. هكذا يدافع شميت عن الدولة ذات السيادة القوية والقرار السياسي المركزي عبر كل كتاباته.
إن النموذج الألماني الذي نظَّر إليه شميت لا يختلف كثيرا عن العديد من النماذج الحالية، ومثال ذلك النموذج الفرنسي الحالي؛ فمفهوم السيادة الوطنية في فرنسا الحالية متضخم بشكل لافت للنظر، ويقترب كثيرا من مفهوم السيادة كما نظَّر إليه شميت حد التماهي. فشميت انشغل بضرورة وجود كيان سياسي جامع موحد صاحب قوة وقرار مستقلين. لقد تبنى، في الآونة الأَخِيرَة، جمهرة من المفكرين اليساريين، تصور شميت، حيث يعتبرون أن نظريات شميت تُحَدِّدُ هامش التمايز والحرية، في منظومةٍ دوليٍّة تعيش تحت رحمة العولمة الليبرالية التي تسعى إلى التنميط السياسي للدول، ورأوا أنَّ في أطروحاته تلك حلا من أجل تجديد السِّيَاسَةِ الديمقراطية، وتحريرها من غلوها.
إن انشغال شميت بضرورة بناء نظريَّة الدولة القوية صاحبة السيادة؛ جعلته يتوسل بمفاهيم تعطي للنظريَّة تناسقها وانسجامها، وبالتالي توصل إلى فكرة “اللاهوت”، وهذا لا يعد نكوصا منه أو تراجعا عن “الدنونة” La sécularisation التي باشرتها المجتمعات الحديثة؛ بل تنقيبا منه في أصول المفاهيم السياسية ومحاولة منه في استعادة قوتها بعد أن جردتها الإيديولوجية الليبرالية من حدتها وبعدها السياسي.
حسب شميت، مفاهيم النَّظريَّة الحديثة للدولة مفاهيم لاهوتية معلمنة، يقول شميت: “إن مفاهيم النَّظرية الحديثة للدولة كلها ذات الدلالة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة؛ وذلك ليس فحسب بسبب تطورها التاريخي، حيث نقلت المفاهيم من اللاهوت إلى نظريَّة الدولة، فيصبح الاله القادر على كل شيء، المشرع القدير، ولكن أيضًا بسبب بنيتها المنهجية، التي يجب معرفتها من أجل الاعتبار السوسيولوجي لهذه المفاهيم. والاستثناء في علم التشريع هو مماثل للمعجزة في اللاهوت. ولا يمكننا تقدير الطريقة التي تطورت عبرها الأفكار الفلسفية للدولة في القرون الماضية إلا من خلال وعينا هذا التماثل”[7].
لم يكن توسل شميت باللاهوت السياسي ردًّا على التوجه نحو الدنونة ورفضا للفصل بين السياسي والثيولوجي، بل هو في كنهه محاولة لإحياء جدوى الأصول الثيولوجية للمفاهيم السياسية، بعد أن جردها العقل الليبرالي من قوتها السياسية، التي تنزع نحو إزالة قوة الممانعة والخاصية الجدالية والعدوانية للسياسة. هكذا يتبين أن مهمة اللاهوت السياسي تنحصر في التذكير بمضمون وكنه السياسة اللاهوتي، لا في محاولة ابتعاث نمط الحكم الديني بديلا عن الدولة الليبرالية. بل يشير شميت من خلال ذلك إلى مكان التعالي الذي بقي فارغا نتيجة لانهيار المنظومة اللاهوتية في القرن السادس عشر وإلى الكيفية التي تبلورت بها المفاهيم السياسية العلمانية.
لقد توسل كارل شميت بالمفاهيم اللاهوتية المسيحية كمفهوم “الإله القدير” و”الخطيئة” و”الصراع بين الخير والشر” و”الخلاص” و”المعجزة”، وأسقطها على الحقل السياسي، ليواجه بها فكرة “أنسنة” الفعل السياسي وينتبذ الطابع العنيف عنه، عبر توظيف مفاهيم “التعددية” و”الحوار” و”الاختلاف” و”الحرية” لتقوم مقام “العنف” و”الصراع” و”العدوان” باعتبارها مفاهيم متجذرة في فكرة “الشر” المتأصلة في ماهية الطبيعة الإنسانية. يقتضي إرجاع السياسي إلى الصراع والعداء والعنف التنقيب عما يخول دعم هذه الفكرة وذلك عبر اعتبار الإنسان خطاء، ميالا بطبعه إلى الشر وإلحاق الضرر بغيره، وهذه الخاصية ملازمة له ولا انفكاك له عنها، وهو ما جعله يبرر المعيار السياسي “الصديق والعدو”[8] Principe ami-ennemi والذي يدل ببساطة على مفهوم الشر في الفعل والعمل السياسي. وهذا يعني بوضوح؛ ارتباط السياسي بالأخلاقي حيث أن “إثبات السياسي في نهاية المطاف ليس شيئا آخر غير إثبات الأخلاق”[9] بوصل الفعل السياسي بمفهوم “الشر” و”الخطيئة” و”الخلاص” فيمسي الصراع بين الشر والخير مرادفا للتصارع بين الحرب والسلم، ويأخذ التقاطب الديني بين “الإله” و”الشيطان” وضعية سياسية تمثل التقابل بين “العدو” و”الصديق”.
إن المفهوم الأساس في اللاهوت هو “حالة الاستثناء أو الوضعية الاستثنائية”، ذلك أن شميت يشيد لسلسلة مفاهيمية مترابطة ومغلقة تتألف من “السيادة” و”الديكتاتورية” و”القرار”، كمدخل لاستجلاء طبيعة دولة “ما بعد فيمار”. يتمثل المظهر الحقيقي والنِّهائي والشَّرعي لمبدأ السِّيادة-حسب شميت- من خلال، القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة خارج القانون وفي إطار وضعية استثنائية[10] تخول تعليق النظام الدستوري الطبيعي وإلغاء العمل به، نحو وضعية جديدة تأخذ شكل دكتاتورية سيادية حيث لا سيادة للدستور القديم. إذا عجز عنصر السِّيادة أن يقرر خارج حدود الدستور والقانون؛ فإنَّ السِّيادة لا قيمة لها[11]. هذا فضلا على أن السيادة-حسب شميت- مصطبغة ومُشْبَعةٌ بالبعد الدِّيني. إنَّهُ مبدأ يكاد يكون مقدَّسٌا، وصار أكثر قدسية في زَمَن العَلْمَانية، بِاعتباره مَفْهُوماً لاهوتياً سياسيًا. إن المفاهيم الحديثة للدولة، كما يرى شميت، مفاهيم لاهوتية علمانية، والحاكم المطلق(الفوهرر) يشبه الاله لكونه المشَرِّع الأعلى، وحالة الاستثناء بهذا المعنى تحاكي المعجزة في اللاهوت، فعنصر السيادة هو منقد الشعب ومخلصه في زمن العدمية والحياد السياسي، ولذلك فهو يطالب بالامتثال والطاعة والتضحية اللامحدودة.
إن حالة الاستثناء ليست حالة فوضى واضطراب، بل هي عملية انتقالية من كيان سياسي ضعيف وهش إلى نموذج سياسي متماسك وقوي من خلال سيادة قرار الزعيم عوضا عن القانون المجرد. يقول شميت “ولأن الاستثناء يختلف عن الفوضوية والبلبلة، سوف يبقى النظام بالمعنى التشريعي حتى لو لم يستمر بشكله العادي”[12]، بل وحتى لو أفضى إعلان حالة الاستثناء إلى إلغاء جميع السلطات لفائدة سلطة واحدة، هي سلطة الحاكم المطلق السيادي الاستثنائية.
ينقد شميت الشرعية القانونية التي تقضي بكون وظيفة الدولة تقتصر على، تطبيق القوانين والمحافظة على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، ما يجعل مسألة الرجوع إلى فكرة “الاستثناء” و”تعطيل القوانين” و”تحوز السلطات الكاملة” داخل دولة الحق Rechstaat مستحيلا، غير أنه عندما تمسي ممارسة السلطة صادرة عمن يتحوز المشروعية السياسية أو بمعنى آخر عنصر السيادة؛ فإن حالة الاستثناء لا تغدو تعارضا مع الدولة بل جزءا لا يتجزأ من النظام وقرارا سياديا لمن يملك المشروعية السياسية، وهو بذلك يتماهى معها ويجسدها عمليا على أرض الواقع.
يظهر إذن “مفهوم السياسي” عند شميت الذي ميز فيه بين السياسة كأحداث ووقائع، والسياسي، باعتباره كنه السياسة والأساس الوجودي الذي يقرر سيادة الدولة الحديثة ويحدد ملامح هويتها، وهو ما يدل على أن شميت يميز بين التصور الإداري والتشريعي للسياسي وبين القرارات السياسية للدولة التي تخول لها ممارسة سيادتها عبر تحديد “العدو والصديق” والقدرة على اتخاذ قرارات استتثنائية كإعلان الحرب. ومن ثم، فإن شميت يقر بأن للسياسي خصوصية تجعله أهم وأعلى شأنا مقارنة بالاقتصادي والجمالي والأخلاقي. يعترض هابرماس على هذا الطرح الوجودي الذي يتجاوز المنطق العقلي والنقاش السياسي العقلاني، ويرى في مسلمته تلك-مسلمة شميت- محاولة منه لإعادة الدين إلى المجال العمومي والحياة السياسية بوصفه مسلمة غيبية لا تخضع إلا لحكم الكتب المقدسة[13].
لا نرى فضيلة في أي نزوع نحو العودة إلى حِصْنِ السِّيَادَة الوَطنية ولا بديلا عما يجده الأفراد من تفتت هويتهم وانقسامها، خصوصا في السياقات المعاصرة حتى لو كان ذلك واردا، وبالرغم من ذلك، فإن شميت يكون مُحقًا، عندما يشير إلى العودة الدائمة لإشكالية السِّيَادَة، التي تنبعث بقوة في كُلِّ مَرةٍ يمر فيها نظام اجتماعي وسياسي بأزمةٍ تتعلق بالشرعية السِّيَاسِيَّة– كالتي تمر بها الأنظمة الليبرالية الراهنة. ومن ثم، فإن مَسْألة السِّيادة هي من عدة وجوه، مسألةٌ جوهرية في الفكر السياسي وفي الشأن السياسيّ أيضاً. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن السِّيادة لا مناص منها، أو أنَّه يتعذر التوصل إلى طرائق بديلةٌ تخول تنظيم الحياة الاجتماعية والسِّياسِيَّة.
تشير السِّيَادَةُ[14] إلى حالة التعالي عن النِّظَامِ الاجتماعي والسياسي القائم، حيث تشكل نقطةَ هويةٍ متعالية، تحدّدُ المعنى الجوهري للسلطة، وترسم حدود الماهية، إنها تخول التمييز بين الدَّاخِل والخارج، والصَّديق والعدو، وتضمن تَمَاسُكًا وَوَحْدَةً للاجتماع السياسي، وتُشكل عُنْصُر استقرارٍ وثبات في عالم مُضطرب. تصير السيادة حاضرة وفاعلة، لحظة الاضطراب والأزمات، في اللحظة التي يحاول فيها أفراد المجتمع إعادة ابتعاث إحساس باليقين الوجودي عبر فِكْرَةِ السُّلْطَةِ المُتَعَاليَّة.
ليس من السهل، اليوم، أن يجيب اللاهوت السِّياسي، عما إذا كانت السِيَّادَةُ تشكل تقييدا، أو مصدراً للاضطرابات للقادم من الأيام. تنبعث حالة التشظي والتذررAtomisation والاحتراب في المجتمعات البشرية الإنسانية التي نبه إليها شميت، عبر تفسخ النظام العالمي الليبرالي والرجعة القوية لحلم السِّيَادَة. نحتاج في ضل مثل هذه السياقات إلى فهم هذه الحالة المعاصرة، المتمثلة في العَدَميَّةِ والعنف المرتقب، المستتر وراء كيان الدَّولة ذَاتِ السِّيَادَة. إنَّهُ الحلم الضيق الممتزج بجنون العَظَمَة للهوية – القومية والثقافية والدينية – التي تعادي القيم الإنسانية والكونيّة، لإنَّهَا الرُّؤية الدغمائة والعَدَميَّة، التي تروم تذرير العالم وخلق كيانات متشظية متنافرة لا تبتغي التَّوافق ولا قبول الآخر. ترمي سياسات اليمين العنصري الداعي إلى الرجوع إلى القوميات؛ إلى القطع مع ثقافة التعددية، وتدعو إلى التمييز بين الأديان والتفرقة بين الثقافات. إنها ببساطة عقيدة تأتي على النقيض تماما من الكوسموبوليتانية و”المؤسسة” الليبرالية وفلسفتها.
إن المتتبع للشأن السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وأجزاء أخرى شتى في العالم، يرى، بلا مواربة، التأثير القوي للحركات والتوجهات الدينية المحافظة، في مجريات السياسات الانتخابية وسياسات الحكومات. فهل في مُكننا القول إن نظاما سياسيا معينا قد نجح بالفعل في الفصل بين الكنيسة والدولة؟ وهل النقاشات المحتدمة حول صعوبة المواءمة والتوفيق بين الأديان والثقافات المختلفة واستعصاء التعايش السلمي بينها؛ ليست إلا دليلا ملموسا على الحضور القوي للدين في السياسة وفي الفضاءات العمومية وتأثيره البالغ الأثر عليهما؟ وبالتالي، باتت وضعية “ما بعد العلمانية” هي سياق يدعو إلى إعادة فهم العلاقة بين الدين والثقافة والسِّيَاسة، وللنظر النقدي في مقومات التعاقد الاجتماعي وفلسفة العلمَانية ذاتها.
[1] “حكاية العلاقة بين العلمانية والدين كما بدت مند سبعينيات القرن العشرين حتى أواخر القرن، وهي الحقبة التي شهدت صعودا مفاجئا للدين لم يتوقعه أي من مفكري العلمانية الكبار. أما مظاهر هذا الصعود، فتتمثل في تزايد عدد المستغيثين بالدين لا تناقصهم، وفي ضغط متزايد يمارسه الدين بأشكال مختلفة سعيا للعودة إلى المشهد السياسي، وفي قدرة الخطاب الديني الفائقة على مخاطبة هواجس الهوية والشقاء والمعنى لدى الإنسان المعاصر“؛ يُنظر، يورغن هابرماس، جوديث باتلر، كورنيل ويست، تشارلز تابلر، قوة الدين في المجال العام، ترجمة فلاح رحيم (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 2013)، ص. 13
[2] Habermas, Jürgen. « Qu’est-ce qu’une société « post-séculière » ? », Le Débat, vol. 152, no. 5, 2008, pp. 4-15.
[3] يُنظر،
Pascal Delwit, Jean-Michel De Waele et Andrea Rea, L’Extrême droite en France et en Belgique (Bruxelles: Editions Complexe, 1998).
[4] صعود اليمين المتطرف في دول أوروبا عموما (إيطاليا، فرنسا، هولندا وألمانيا) في الانتخابات الأخيرة(2024) دليل على ما قلنا والنموذج الفرنسي على وجه الخصوص خير مثال على هذا التوجه، حيث أطلقت الجمعية الوطنية شعار “إما أن تحب فرنسا أو تغادرها”، لتمتد عدوى هذه الموجة إلى هولندا وبلجيكا وألمانيا.
[5] Bertrand Badie et Dominique Vidal, Qui gouverne le monde ? (Paris: La Découverte, 2016(.
[6] “السلطة المطلقة والدائمة للجمهورية أو السلطة المركزية التي تمارس سلطتها العليا على إقليم”؛ يُنظر،
Bertrand Badie, Un Monde sans souveraineté, les états entre ruse et responsabilité (Paris: Fayard, 1999), pp. 6-7.
[7] كارل شميت، اللاهوت السياسي، ترجمة: رانية الساحلي وياسر الصّاروط، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص. 49
[8] Feldman, Jean-Philippe. « Principe ami-ennemi et catallaxie. Carl Schmitt, le libéralisme et la guerre », Droits, vol. 46, no. 2, 2007, pp. 67-96
[9] Heinrich Meier, Carl Schmitt, Leo Strauss et la notion de politique, un dialogue entre absents, suivi du commentaire de Leo Strauss sur “la notion de politique” et trois lettres inédites à Carl Schmitt des années 1932–1933, Françoise manent (trad.), (Paris: Commentaire/Julliard, 1988), p. 74
[10] “الحاكم السيادي هو الذي يقرر في الحالات الإستتنائية”؛ يُنظر، كارل شميت، اللاهوت السياسي، سبق ذكره، ص.23
[11] يقتضي مفهوم السيادة عند كارل شميت، وجود القدرة المطلقة على اتخاذ القرار اللازم في شؤون الدولة وفي مصيرها، وهذا يعني أن عنصر السيادة يجب أن يقرر “في حالة نزاع ما الذي يشكل المصلحة العامة أو مصلحة الدولة، والسلامة العامة والنظام، والخلاص العام”، نفس المصدر، ص.24
[12] نفس المصدر، ص.28
[13] يُنظر، يورغن هابرماس، جوديث باتلر، كورنيل ويست، تشارلز تابلر، قوة الدين في المجال العام، ترجمة فلاح رحيم، (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 2013)، ص. 15
[14] Cf : Bertrand Badie, un Monde sans souveraineté, les états entre ruse et responsabilité, Op. Cit, p. 7